معظمنا مذ وُجد على هذه الأرض وهو يُمنّي نفسه بأن زمنه لم يحِن بعد، في كل مرة يحاول أن يبدأ بإنجاز مشاريعه وأحلامه التي لطالما تمنى أن يحققها، يجد نفسه عاجزاً عن القيام بذلك، حيث إنه ما يلبث أن يسمع ذاك الصوت الذي يهمس بداخله "دع عنك ذلك الآن؛ فأنت لست على استعداد للقيام به"، فلا يلبث أن يستسلم لذلك ويترك ما هو عازم على القيام به، ويبدأ في التمني من جديد، وهكذا قد يُمضي أحدنا عمره وهو يُمني نفسه، وأن حينه وأجله لم يحينا بعد، وذلك لأسباب متعددة، فالبعض يرى أن مكانه الذي وُلد فيه لا يلائمه، والبعض الآخر يرى أن الزمن غير مناسب، وآخرون يرون أن محيطهم والناس الذين من حولهم لا يُساعدونهم على أن يُظهروا أفكارهم الإبداعية، وقدراتهم الفكرية، وهكذا قد يبدأ أحدنا في التذمر، ويُمني النفس من جديد، إلى أن أتى هذا الوباء غير المنتظر، فسدَّ أفق الأمل أمام الجميع، وبدأ الإحباط واليأس يدب إلى النفوس، وغلب التشاؤم على معظم الناس، فأصبحتَ لا تُبصر من حولك إلا الظلام، ولا ترى في الأفق إلا الأنفاق المظلمة والمسدودة.
قد لا يكون كل من سيقرأ هذه الحروف يوافقني الرأي، فهناك من يستطيع أن يرى في حلكة الظلمات بصيص أمل، وهناك من مر بتجربة الحجر الصحي ولم تترك عليه أي أثر، غير أنني أتوجه الآن بالحديث إلى الشريحة الثانية، التي أنا واحد منهم، فما وصفته في الأعلى قد سبق أن عشته، عانيت منه مراراً، تذمرت، ويئست، غير أنني اكتشفت أن الحل في خلاف ذلك، فعلى الرغم من أنني منذ صغري لم أكن بذلك الشخص الطوباوي، بل أنا شخص واقعي، أحاول تطبيق المنطق في الحياة إلى أبعد حد ممكن، وهذا ما أفعله الآن، بعد مروري بتجربة الحجر الصحي، اكتشفت أن التفكير الواقعي لا يقتضي التذمر والتشاؤم بل العكس هو يقتضي التفاؤل، بل ربما ما كنا نعيشه قبل الجائحة هو ما كان يحمل بذور الطوباوية، حتى أتت الجائحة وكشفت الحجب عن أعيننا، وأرتنا واقعنا الحقيقي، ودعتنا إلى التعامل معه.
لم يكن لأي خبر وقع في نفسي كمشاهدة العالم وهو يُغلَق شبراً بشبر وذراعاً بذراع، كان هذا الحدث يعني لي الكثير، ما زلت أتذكر حينها وأنا أناقش مع أصدقائي فكرة التقدم في التاريخ، هل التاريخ يمضي في خط مستقيم أم تراه يدور في حلقات ودوائر؟ لا شك في أن كثيراً منا كان يرى أن التاريخ يمضي في خط مستقيم، بل يؤمن ويدافع عن ذلك، وأن الحياة لن تعود إلى الوراء، وأن الإنسان اليوم يعيش في عصور الازدهار والعلم والمعرفة، غير أن الجميع فوجئ بفيروس خفي، يهزم كل إمكانياتنا، ونُظمنا الصحية والعلمية، ليعود التفكر من جديد في مدى صحة ادعاءاتنا بشأن التقدم، هل فعلاً كنا على صواب؟ كنت أناقش مع صديقي هذا الأمر وأطرح عليه في الأخير سؤالاً، مفاده: ما الفرق بيننا وبين ذاك الإنسان الذي كان يختبئ في الكهوف مخافة أن تهاجمه الوحوش، ألسنا نقوم بالأمر نفسه؟ أعلم علم اليقين أن الغالبية اليوم قد يستنكرون هذا الأمر، غير أن السؤال جدير بأن يأخذ حظه من التأمل.
كان لذلك الخبر وقع في نفسي وأدخلني في دوامة من التفكير والتأمل، راجعت كل يقينياتي، وخرجت بيقينيات جديدة، اكتشفت أنه لكي نستمر في الحياة، لابد من أن نظل على استعداد دوماً لأن نتغير، لابد كذلك من أن نظل على استعداد دوماً لأن نموت ونحيا من جديد، حيث إن المحن بمثابة تطهير لأرواحنا، فنحن نخرج منها وقد وُلدنا من جديد، رغم أن تجربة الحجر كانت مفيدة في جوانب كثيرة، حيث إنها منحت فسحة للإنسان ليتأمل نفسه، ليراجع أهدافه، وليعيد النظر في كل شيء يحيط به، فإنه كانت لها آثار جانبية، لا نبالغ إن قلنا إنها كارثية، تمخض عن تجربتي تلك وبعد ابتعاد لمدة غير قليلة عن وسائط التواصل، ومصادر المعلومات الحديثة، أن اكتشفت أن أغلبنا قد يظل حبيس جهازه، يقوده ويتحكم فيه، يُفني عمره، ويُنسيه ذاته، يقوده إلى عالم بعيد عن واقعه، ولا يترك له حتى مجرد المجال لأن يطرح ولو يوماً واحداً ذاك السؤال الوجودي المحير: من أنا ولماذا أنا هنا؟ في اعتقادي من شأن الإجابة عن هذا السؤال، أن تحل معظم مشاكلنا النفسية المعاصرة، وتفرّج كثيراً من كروباتنا، التي تقود كثيراً من الشباب اليوم إلى التفكير في إنهاء حياتهم.
لم يكن أمري استثناء عن كثيرين، بعد انتهاء مهلة الحجر، بل ربما كانت حالتي من بين أسوأ الحالات، حتى إنني لا أصدق وأنا أكتب اليوم عنها، أنها مجرد كابوس ولَّى وأصبح ماضياً، وأن تلك الحالة كانت مجرد تجربة من تجارب أخرى عشتها أو قد أعيشها فيما يستقبل من الزمن، الغرض منها أن تعطينا دروساً في الحياة، صحيحٌ أن دروسها تكون قاسية، غير أنها ربما هي الدروس التي تكون مفيدة، هي الدروس التي لا تُنسى وتظل صامدة في أثناء مواجهة الأزمات، كانت لصدمة الحجر أثر كبير على معظم حيوات الأفراد، هناك من استطاع أن يتعامل معها ويخرج منها بسلام، وهناك من انهزم واستسلم، وترك لليأس أن يفعل فيه فعلته، لا أحب في هذا السياق ذكر مفردات من قبيل "محاربة"، لأنها تحمل بعداً فلسفياً لا أراه مناسباً، غير أني أفضل بذل ذلك مصطلح "مقاومة"، لأقول: الحياة معركة وينبغي أن نقاوم.
لعل بعد معاناة ومحنة اكتشفت قيمة القول المأثور "مقامك حيث أقامك"، كثيرون يعطون هذا القول تفسيراً دينياً، ومعناه: إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله، فانظر إلى الحالة التي أنت عليها في الحياة، فإن كنت في طاعة فهذه الحال التي أرادك الله أن تكون عليها، وإن كنت خلاف ذلك فالأمر كذلك، غير أنني أرى أن في هذا القول معنى آخر، وهو الذي يمكن أن أجيب به عن تلك الحالة من التذمر والتواكل التي يحيا عليها معظمنا، كثيرون يرون أنهم وُلدوا في المكان الخطأ أو الزمن الخطأ، ولذلك فهم غير مستعدين لأن يبدعوا ويبتكروا، غير مستعدين لأن يساعدوا ويساهموا في المجتمع، بل يظلون ينتظرون زمنهم الذي لم يأت بعد، والذي لن يأتي ربما.
غير أنني أرى أنه وإن كان يبدو لنا أننا لسنا في المكان والزمان الصحيحين، فإننا أعطينا الكثير لنقدمه في زماننا، بما نعيشه من ظروف وصعوبات، فقط ينبغي أن ننتبه إلى مكامن القوة فينا، أو بالمعنى الأصح ينبغي أن يقف كل واحد منا مع نفسه، ليدرك من يكون وما هو قادر على تقديمه، سواء لمجتمعه، لمحيطه، بل للإنسانية جمعاء، لم لا؟ فقط ينبغي لنا أن ندرك ما المطلوب منا، أو نعرف الرسالة التي نحن مكلفون بحملها، فإننا في الزمن والمكان الصحيحين، "وكل شيء عنده بمقدار"، أستحضر في هذا السياق مجموعة من المفكرين والمبدعين في التاريخ البشري، والإسلامي على وجه الخصوص، معظم أولئك العباقرة، لم تكن تقدَّم لهم الحياة على طبق من ذهب، غير أن أذكاهم هو الذي أدرك السر في وجوده، فعمل وفقه، وعاش ذكره وفكره بين الناس ولو بعد حين، وصدق من قال: قل كلمتك فإنها حتماً ستعرف طريقها إلى الوجود ولو بعد حين، وعلى غرارها يمكن أن نقول: فقط أدِّ رسالتك فإنها حتماً ستعرف طريقها أيضاً إلى الوجود ولو بعد حين.
ربما من المناسب أخيراً، أن أذكر تجربة خُضتها هذه السنة، كانت مفيدة ومميزة، وكانت من بين الأسباب التي ساعدتني على تجاوز صدمة الحجر، ولم تأتِ تلك التجربة إلا نتيجة هذا الوباء أيضاً، لأسباب متعددة، توقفت الدراسة، وخضت تجربة تعلُّم اللغات، خاصةً اللغة الإنجليزية والفرنسية، أتذكر كيف كانت حالتي النفسية، وأنا أبدأ السنة الفارطة، غير أنني سرعان ما أكتشف انغماسي في المهمة الجديدة، وشيئاً فشيئاً ذهب الكرب، وأنير الطريق من جديد. في اعتقادي، التعلم يمكن أن يكون وسيلة للشفاء أيضاً، ففي الحياة الكثير مما يمكن أن يُتعلم، خاصةً ما يخص الشعوب والثقافات والتي تعتبر اللغة أحد أهم الأبواب لولوج تلك العوالم المختلفة عنا، بتعلم اللغات والثقافات الأخرى يمكن أن نكتشف طرقاً أخرى للحياة غير ما تعلمناه، يمكن أن نتعلم أنه ليس هناك نمط واحد يمكن أن نعيش الحياة وفقه، بل هناك أنماط وسبل مختلفة.
الكل يدرك أن الحياة لغز، مهما حاولنا التحكم فيها إلا أننا سرعان ما نتبين أنها هي التي تقودنا، هذا ليس معناه أن نترك التخطيط والعمل، غير أن خططنا ينبغي أن تكون مرنة، وأن نعيش وفق المبادئ الكونية الكبرى التي تحكم العالم، وأن ندرك أن للحياة سنناً، لا أن نعيش الحياة وفق منطقنا القاصر والضيق للحياة، فإذا ما حصل أمر ما، وانهارت خططنا فإنا نصاب باليأس والإحباط، ينغي أن نكون مستعدين لأن نتكيف ونعيش وفق السنن الكونية التي وضع الله الكون وفقها، وفي هذا السياق لا يمكن أن نغفل أطروحة المؤرخ والفيلسوف المسلم ابن خلدون، الذي بسط الكلام عن هذا المفهوم، ولم يكن يتوصل إلى ذلك، إذ لم يكن يسترشد بالوحي، وهذا ما عُدم عند غيره من فلاسفة عصرنا، الذين ساهموا في ظهور النظرة العدمية للوجود، يسبب تفسيراتهم المادية القاصرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.