ما الدروس التي يجب على الأنظمة العربية تعلُّمها من التجربة التشيلية؟

عدد القراءات
1,167
عربي بوست
تم النشر: 2021/12/27 الساعة 12:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/12/27 الساعة 12:52 بتوقيت غرينتش
رئيس تشيلي، غابرييل بوريك / رويترز

عرفت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تشيلي حدثاً سياسياً مهماً، جعل المتابع للتجربة السياسية في العالم العربي التي خاضها الشعب التشيلي منذ ثلاث عقود مع تجربة مسار التغيير والانتقال السلمي للسلطة منذ عام ١٩٨٩ حين اعتزل الجنرال أوغستو بينوتشي بعد حكم دام ستة عشر عاماً، وعُرفت فترة حكم بينوتشي بآلاف الاعتقالات التعسفية، وتُعتبر فترة حكم أحد الأنظمة الدموية في أمريكا الجنوبية والدول النامية في العالم عموماً. كان انقلاب ١١ أيلول/سبتمبر ١٩٧٣ ضد الرئيس المنتخب ديمقراطياً الرئيس سلفادور إيزابيلينو أليندي غوسينز حدثاً غيّر مسار النضال الفكري في أمريكا الجنوبية؛ حيث كان لهذا الحدث امتداد أيديولوجي في الوطن العربي، وخاصة في الأوساط الطلابية والنخب اليسارية.

يُعد عام ١٩٨٩ محطة مفصلية لمسار الشعوب المتطلعة للتغيير والانتقال السلمي للسلطة في بلدانهم من وارسو إلى سانتياغو؛ حيث كانت نهاية الحرب الباردة ومعها نهاية صراع القطبين وتوازن القوى الدولية، كما عرفت أيضاً دول عربية مساراً إصلاحياً يعد بالتعددية الحزبية وحرية التعبير والصحافة على غرار دستور ٢٣ شباط/ فبراير ١٩٨٩ في الجزائر؛ الذي كان شعاع أمل لملايين الجزائريين. حيث أتى دستور الجمهورية الثانية بنقلة سياسية نوعية في البلاد منذ الاستقلال أي الانتقال من نظام شمولي إلى منظومة حكم جديدة تحتكم لمبدأ الفصل بين السلطات والرقابة على أعمال الحكومة.

آليات التغييروالانتقال السلمي

لم تعمّر التجربة الديمقراطية في الجزائر طويلاً، حيث آلت فيما بعد إلى مأساة، أتت على الأخضر واليابس دامت عقداً كاملاً، ثم رافقها عقدان من الفساد والمحسوبية مما أدى إلى ظهور منظومة أوليغارشية. ثلاثة عقود مرّت على الجزائر كانت فترة تصحّر سياسي وفكري ناهيك عن تآكل البنية التحتية للاقتصاد الوطني وانهيار القطاعات الحيوية في الدولة مثل قطاعي التعليم والصحة.

 واستناداً لما سبق أن ربط ما حدث في تشيلي بانتخاب غابريال بوريك بمثابة تسونامي سياسي، بحيث ليس المرة الأولى التي يعبِّر فيها الناخب تشيلي عن إرادته من خلال انتخابات ديمقراطية باختيار ممثل من اليسار يقوده إلى قصر الرئاسة "قصر لامونيدا" منذ مسار التغيير والانتقال السلمي في البلاد عام ١٩٨٩.

الرئيس المنتخب غابريال بوريك البالغ من العمر ٣٦ سنة، قضى فترته النضالية في الأوساط الطلابية والحقوقية اليسارية، فأعاد الناخب التشيلي بانتخاب الرئيس المنتخب غابريال بوريك في البلاد ومحيطها الإقليمي ذاكرة انتخاب الرئيس سلفادور أليندي عام ١٩٧٣، وقد يكون من الأجدر للمهتم بربط التحولات السياسية في أمريكا الجنوبية مع التحولات التي تعرفها المنطقة العربية عموماً، وبالعلاقة الجدلية بين الجيش والسلطة على وجه الخصوص بالنظر لتجارب مقارنة لدول أخرى حكم فيها الجيش؛ ففي عام ١٩٨٩ مثلاً استطاع جنرالات في المؤسسة العسكرية بتشيلي أن يغيروا الأوضاع وآليات التغيير والانتقال السلمي للسلطة دون الإطاحة بقيادة الجنرال أوغستو بينوشيه للمشهد السياسي في البلاد، حيث دفعوا بصياغة عقد اجتماعي بين المؤسسة العسكرية من جهة والأحزاب السياسية والنخب من جهة ثانية، فكان ذلك بمثابة اعتراف من النظام العسكري في سانتياغو بإخفاقاته من ناحية، وبالمسار النضالي الطويل للشعب ونضج المعارضة السياسية في البلاد من ناحية أخرى، بما أفضى لإيجاد صيغة توافقية لتقاسم السلطة بشكل جدي.

وما هو مثير للاهتمام فعلاً في هذا النموذج التشيلي، هو الذوبان التدريجي في علاقة الصراع الدائم بين الجيش والمعارضة، فيما تلا ذلك من ثلاثة عقود اتسمت بالنضج السياسي والتطور الاجتماعي والاقتصادي وبروز فئة شبابية انخرطت في مسار التغيير السلمي بكثافة وبوعي سياسي ناضج، رافقتها المعارضة الضاربة في عمق المجتمع التشيلي المركزة والنشطة منذ عقود طويلة في الحياة السياسية في البلاد، حيث تجاوزت الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع تشيلي أحزاباً ونخباً معظمها يسارية. كما اقترن بشكل مميز مع ما حدث في إسبانيا بعد سقوط نظام "Caudillo" فرانكو عام ١٩٧٥. عندها يقف المحلل والباحث في الشأن السياسي أمام السؤال القائم حول مدى تماشي نظام الحكم الديمقراطي مع الأنظمة الشمولية في الدول العربية، واحتمالية الانتقال السلمي للسلطة؟ أخذاً بالتجربة الإسبانية اللاتينية.

هل نجاح العملية السياسية في تشيلي بسبب استلهامها من النموذج الإسباني؟ على عكس الأخذ بالتجربة الفرنسية في الجزائر أو الأمريكية في العراق مثلا؟!

جدلية التجربة التشيلية

 تبقى مسألة المقارنة بين التجربة التشيلية والجزائرية والمصرية، بل وحتى العراقية، بعيدة جداً لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية تتحكم فيها عوامل التاريخ والجغرافيا-السياسية المختلفة؛ إذ يرجع نجاح التجربة التشيلية في الاقتباس من اسبانيا بالضرورة مثلاً، إلى تجانس المجتمع تشيلي مع الثقافة الإسبانية اللاتينية، كتقاسم نفس اللغة والدين، بما سهّل في مسار انصهار المجتمع مع النخب وبالتالي مع الثقافة السياسية السائدة منذ عقود داخل المجتمع التشيلي، إضافة إلى نضج قادة أجهزة الدولة المعاصرة التشيلية وكذلك قادة المعارضة، مما سمح للنخب والجماهير على حد سواء بالدفاع عن المبادئ الأساسية للمسار الديموقراطي، مما جعل الشباب يؤمن بفكرة التغيير والانتقال السلمي للسلطة عبر مسار انتخابي نزيه في ظل نظام التناوب على السلطة في البلاد.

هذا ما يدفعنا إلى طرح السؤال التالي: ما السبب الذي جعل الأنظمة العربية، لا تستلهم من التجربة التشيلية؟

الجزائر مثلاً عاشت هي الأخرى مرحلة الإصلاحات والتغيير السلمي للسلطة في نهاية ثمانينات القرن الماضي، في نفس العام الذي توصّلت فيه المعارضة والجيش في تشيلي إلى حل توافقي للانتقال من نظام ديكتاتوري إلى نظام ديمقراطي.

إذ عرفت الجزائر في تلك المرحلة تغيراً نوعياً في مسألة علاقة السلطة والجيش، إلى درجة تحديد صلاحيات الجيش في دستور شباط/فبراير ١٩٨٩ وتحييد الجيش عن السياسة. طبعاً الجغرافيا-السياسية للجزائر ليست كالجغرافيا-السياسية لتشيلي، حيث برز حزب سياسي من خارج العلبة في الجزائر: حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، الذي قلب موازين معادلة التغيير والانتقال السلمي للسلطة في الجزائر في ظل إصلاحات الرئيس الشاذلي بن جديد، فكان فوز حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات البرلمانية في شهر كانون الأول/ديسمبر ١٩٩١، سبباً في انقلاب كانون الأول / يناير ١٩٩٢ للجيش، الذي عاد على عكس التجربة التشيلية.

بعد مرور ثلاثة عقود عن تجربة المسار السلمي للانتقال السلطة في الجزائر في عام ١٩٨، جاء حراك شباط/ فبراير عام ٢٠١٩ للحد من تمديد العهدات والحفاظ على الحريات العامة؛ فأدى الحراك الجزائري إلى إسقاط  منظومة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، مما جعل كل متتبع للشأن الجزائري وكيفية تعاطي الجيش هذه المرة مع المطالب المشروعة للشعب يلاحظ أن تعامل الجيش مع الحراك كان بأسلوب جد راق ومتحضر إلى درجة أن المتظاهرين رفعوا شعارات وطنية مؤيدة للجيش كشعار: "جيش، شعب، خوا، خوا…" كما كان الجيش حامي الوطن والراعي السامي لأمن واستقرار البلاد خوفاً من أي انزلاق أمني يدخل البلاد في دوامة الفوضى وعدم الاستقرار.

على عكس التجربة الأليمة لأحداث ٥ تشرين الأول/أكتوبر ١٩٨٨ حيث كانت معاملة الجيش للمتظاهرين عنيفة، كان للجيش هذه المرة رؤية واستراتيجية لإدارة الأزمة السياسية ومواكبة الأحداث سياسياً وأمنياً، فنجحت المؤسسة العسكرية في مرافقة المسار الدستوري لحماية سير مؤسسات الدولة بشكل طبيعي وتجسيد العملية السياسية المتمثلة في انتخاب رئيس جديد للجمهورية ومساندته بالدفع بإنجاز العملية السياسية في الجزائر بعد انتخابه في كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٩.

وقد أكسب ذلك الجيش تعاطفاً كبيراً في أوساط الشعب والطبقة السياسية منها التيار الوطني المحافظ، باستثناء بعض الأحزاب والنخب اليسارية التي كانت تطالب بدولة مدنية، ليست عسكرية!

شبح الاستقرار

عندها يبقى النموذج تشيلي بعيد المنال للتحقيق في الدول العربية، التي لا يزال بعضها في مرحلة الإنعاش السياسي والأخرى منغمسة في فوضى التنازع والتمزق العرقي والطائفي؛ إذ إن هناك اختلافاً محورياً في العلاقة الجدلية بين الجيش والقوى السياسية المدنية والنخب وجدلية أسبقية الجيش على المدنيين في الدول العربية، فرغم أن الأهداف المعلنة من المؤسسة العسكرية في مصر والسودان مؤخراً وفي الجزائر في سنوات العنف والعنف المضاد ما بين فترة (١٩٩٢-١٩٩٩) وخلال فترة حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، فإن فصل الجيش عن السلطة ظل مرتبطاً بمتغير الاستقرار الداخلي الذي غذَّى فكرة أن المؤسسة العسكرية بمثابة العمود الفقري لكيان الدولة بسبب محيطها الإقليمي المشتعل والتوتر الدائم مع المغرب وحالة الأمن وعدم الاستقرار في ليبيا وتونس والساحل الإفريقي.

ومن جهة أخرى، فغالباً ما تحوّل الجيش في الدول العربية بعد انتهاء الحرب الباردة وإعادة هيكلة المؤسسات العسكرية في هذه الدول إلى طبقة ذات طابع اقتصادي على غرار الجيش الروسي والجيش التشيلي في عهد الجنرال بينوشيه. مما أدى إلى ظهور مجموعات من رجال الأعمال، هم في الأصل ضباط متقاعدون أو أفراد من عائلاتهم، يستغلون الانفتاح الاقتصادي واتباعها لسياسة نيو-ليبرالية اقتصادية تشل القدرة الشرائية للمواطن؛ مما جعلهم يصبحون فئة من الأوليغارشية التي تحتكر السوق المحلي وتطغى بنفوذها على آليات التصدير والاستيراد وتؤثر سلباً على النظام المصرفي، كما يعرف في الجزائر Import-import هي عبارة تستخدم كون الجزائر كانت تستورد فقط ولا تصدر شيئاً في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، التي صنفها الراحل نائب وزير الدفاع وقائد الأركان الفريق أحمد قايد صالح بالعصابة.

يبقى انتخاب الرئيس التشيلي الشاب غابريال بوريك قصة استلهام في الدول العربية، خاصة لدى الفئات الشبابية المناضلة والمتعطشة للتغيير والحكم والريادة، شعاع أمل من أجل النهوض ببلدانهم والعيش الكريم في أوطانهم في ظل التحولات الإصلاحية التي تشهدها هذه الدول منذ عام ١٩٨٩ وتسوناميTunisiami عام ٢٠١١ الذي غيّر المشهد السياسي والجيوسياسي في المنطقة العربية. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالنور تومي
كاتب وباحث جزائري
صحفي متخصص في شؤون دراسات شمال إفريقيا في مركز دراسات الشرق الأوسط (أورسام). حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة تولوز في فرنسا. له مقالات تنشر في صحيفة ديلي صباح اليومية التي تصدر باللغة الإنجليزية في تركيا. عمل محاضراً في قسم دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في كلية بورتلاند كوميونيتي. وفي الوقت نفسه كان عضواً في مركز دراسات الشرق الأوسط التابع لجامعة ولاية بورتلاند.
تحميل المزيد