لم يكن العدل في حياة هذه الأمة المحمدية الخاتمة مجرد مُثلٍ عُليا، أو وصايا تفخر بها دون ممارسة، أو تطبيق، ولكنه كان واقعاً عاشته هذه الأمة، ومارسته، وطبَّقته في واقع حياتها على مر تاريخها الطويل، وعلى تفاوت في ذلك التطبيق بين زمان وزمان، ودولة ودولة، وحسب اشتعال جذوة الإيمان في قلوب الحاكمين، وخبِّوها، غير أن ما يقطع به: أنه لم يخل زمانٌ ممَّن يقيم الحق، والعدل، ويقوم بالقسط، ويحكم به من هذه الأمة.
وحسبنا أن نذكر فيما يلي صوراً من عدل هذه الأمة فيما بينها، ومع أعدائها وخصومها، وأهل ذمتها، وسنختار هذه الصور من واقع الأمة من خلال تاريخها الطويل؛ ليعلم: أن هذه الأمة لم تزل قائمة بالقسط بين الناس، شاهدة به على الناس لله، وأنها جديرة بأن تكون الأمة الوسط الشاهدة على البشرية. وأولى هذه الصور نعيشها مع سيد الخلق، وإمام العالمين نبيِّنا محمد (صلى الله عليه وسلم) إمام هذه الأمة، ومعلمها الخير، وهو يضرب أروع الأمثلة، ويلقن أمته أبلغ دروس العدل، والإنصاف، والمساواة. (عبد الله، 1994، ص 168)
فها هو صلى الله عليه وسلم يُقِيْدُ أحدَ أصحابه من نفسه في طعنة طعنها إياه بالقِدْح في بطنه أثناء تسويته الصف للقتال: روى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم: (عدّل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية وهو مُسْتَنْتلٌ من الصف، قال ابن هشام: ويقال: مستنصل من الصف -فطعنه في بطنه بالقدح- وقال: استوِ يا سواد! فقال: يا رسول الله أوجعتني! وقد بعثك الله بالحق، والعدل، فأقِدْني!. (الذهبي، 1982، الجزء 7ص 35)
فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: "استقِدْ". قال: فاعتنقه، فقبل بطنه، فقال: "ما حملك على هذا يا سواد؟!"، قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جلدي جلدك! فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير).(ابن هشام، 1955، ج1،ص626)
وجاء يهوديٌّ يشتكي إليه أحد أصحابه قائلاً: يا محمد! إنَّ لي على هذا أربعة دراهم؛ وقد غلبني عليها. قال: "أعطه حقَّه"، قال: والذي نفسي بيده، ما أقدر عليها، قد أخبرته: أنك تبعثنا إلى خيبر، فأرجو أن تغنمنا شيئاً، فأرجع فأقضيه! قال: "أعطه حقه". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال ثلاثاً لم يراجع….
وكان صلى الله عليه وسلم يقيم حدود الله على من وجب عليه ذلك في عدلٍ، وإنصافٍ، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، ولا قرابة قريب، ولا مكانة شريف، فها هو صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق البار في قسمه يقول: لو أن ابنته سرقت؛ لأقام عليها الحدّ، لا يدفعه عنها كونها ابنة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلِّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترئ عليه إلا أسامة حبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟" ثم قام: فخطب، فقال: "يا أيها الناس إنما ضلَّ من كان قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق الشريف؛ تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم؛ أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطع محمدٌ يدها!".
فإن قيل: هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس غريباً منه هذا العدل، ومن يعدل؛ إن لم يعدل هو؟
قلنا: وهذا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقيم العدل، والقسط بين الناس، يحكم بالحق لرجل يهودي على مسلم، ولم يحمله كفر اليهودي على ظلمه، والحيف عليه. أخرج الإمام مالك ـ رحمه الله ـ من طريق سعيد بن المسيب: (أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختصم إليه مسلم، ويهودي، فرأى عمر: أن الحق لليهودي، فقضى له، فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق!…).
وكان رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم، فإذا اجتمعوا؛ قال: أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، إنما بعثتهم؛ ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم، فما قام أحد إلا رجل واحد قام، فقال: يا أمير المؤمنين! إن عاملك فلاناً ضربني مئة سوط! قال: فيم ضربته؟ قم فاقتصَّ منه! فقام عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك، ويكون سنة يأخذ بها من بعدك، فقال: أنا لا أَقِيْدُ؛ وقد رأيت رسول الله يُقِيْدُ من نفسه! قال: فدعنا فلْنُرْضِه، قال: دونكم فأرضوه، فافتدى منه بمئتي دينار كل سوط بدينارين. وإن لم يرضوه؛ لأقاده، رضي الله عنه. (ابن سعد، 1990، ج3، ص294)
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.