عادةً ما تُتهم الفلسفة بـ"الغموض"، حيث يتصور العامة كلام "الفيلسوف" وكأنه عبارة عن طلاسم، تحتاج لعقول استثنائية ولكثير من الجهد العقلي لحل رموزها وفهم فحواها، غير أنها عكس ذلك تماماً، حيث إن الفلسفة تَنشُد الدقة وتتوخى الوضوح أكثر من أي معرفة أخرى، إلى درجة تثير معها التشويش في أذهان الناس حول أفكار كانت تبدو لهم واضحةً وبديهية.
وقد قال أبو الطيب المتنبي قديماً:
ليس يصح في الأذهان شيء *** إذا احتاج النهار إلى دليل
لكن الفيلسوف هنا يطرح سؤال: ما النهار؟ وكيف نميزه عن نقيضه الليل؟ هل بالضوء مثلاً الذي نراه نهاراً والظلام ليلاً؟ أم بنوم الإنسان ليلاً واستيقاظه نهاراً؟
ألا يمكننا أن ندخل كهفاً مظلماً نهاراً، ومع ذلك نبقى متيقنين أن الوقت نهار؟ ثم أليس هناك أناس ينامون نهاراً ويستيقظون للعمل ليلاً؟ وما إلى ذلك من الأسئلة التي يمكن أن يثيرها حول موضوع كان يُعتقد أنه واضح وبديهي، وضوح عبارة "السماء من فوقنا".
ما يجعلنا نقرر مع إرنست كاسيرر "أن الأسئلة في الفلسفة أهم من الأجوبة، إن كل جواب يصبح سؤالاً جديداً"، بيد أن طرح الأسئلة وإثارة الإشكالات ليس مقصوراً فقط على الفلاسفة وحدهم، بل كل الناس يطرحون الأسئلة. ما يدفعنا للتساؤل عن: ما هي الفلسفة على وجه التحديد؟
يمكن القول إن قسطاً كبيراً من عمل الفيلسوف هو وضع تعاريف للأشياء، وبالتالي فإن الاهتمام بتعريف "الفلسفة" جزء من الفلسفة ذاتها، وإذا نحن أردنا البحث عن تعريف للفلسفة، فلا يمكننا إحصاء التعاريف إلا بعدد الفلاسفة أنفسهم.
يذكر أن أول من استخدم كلمة "فلسفة" هو فيثاغورس، ولفظة فلسفة مشتقة من اللغة اليونانية ومكونة من شقين؛ فيلو/وتعني محبة، وصوفيا/تعني الحكمة. وهي بذلك تعني محبة الحكمة.
أما عن تعريفها الاصطلاحي فنجد أفلاطون يقترح تعريفها بأنها "معرفة للحقيقة الأزلية"، وهذه الأخيرة لا يمكن اكتناف جوهرها إلا بمعرفة الإنسان لذاته، "اعرف نفسك بنفسك" (سقراط).
أما أرسطو وهو تلميذ أفلاطون، فقد كان تعريفه للفلسفة أشمل وأعمق، حيث يعتبر أنها "علم الموجودات بما هو موجود"، بمعنى العلم الذي به نتوصل إلى معرفة الأسباب والعلل الأولى للموجودات، فتكون بذلك هي أم العلوم.
إن هذا الوجود إذن حسب أرسطو مملوء بأشياء كثيرة، ومهمة الفلسفة أن تبين لنا كيف وُجدت هذه الأشياء، أما نظرية صاحب "الجمهورية" فلا تبيّن لنا إلا أن وراء هذه الأشياء عالماً آخر، هو عالم المثل.
وإذا انتقلنا الآن من العصور القديمة إلى العصور الوسطى فإن أول ما سنلاحظه خلال هذه الحقبة برمتها هو تقارب تعاريف الفلاسفة والمنظرين للفلسفة، منذ أوغسطين إلى ابن رشد، مروراً بالكندي والفارابي وابن سينا… وغيرهم.
وذلك لسبب بسيط، وهو أن الفلسفة القروسطية انشغلت جميعها بإشكالية واحدة موحدة، وهي محاولة الجمع والتوفيق بين الدين (المسيحي أو الإسلامي) والفلسفة.
فنقرأ مثلاً عند المعلم الثاني أبو نصر الفارابي: "الفلسفة هي العلم بالموجودات بما هي موجودة"، أي الكشف عن أسباب وجودها وعلتها الأولى، كما نجد عند إخوان الصفا التعريف التالي: "الفلسفة هي معرفة حقائق الأشياء بعللها ومعلولاتها، وماهية طباعها التي جُبلت عليها ولميّاتها التي خُلقت لأجلها، والإحاطة بجميع ذلك علماً كلياً بقدر طاقة الإنسان"، في حين يذهب فيلسوف قرطبة ابن رشد إلى كون الفلسفة "ليست شيئاً آخر غير النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع (الصانع هنا هو المحرك الأول بتعبير أرسطو)".
واضح أن هذه التعريفات تقترب بهذه الدرجة أو تلك من تعريف أرسطو -وهو الفيلسوف المشائي والمعلم الأول الذي تأثر به كل هؤلاء- وأن ما أضيف إليه حقاً هو تلك الصبغة من التوفيق بين الفلسفة والدين، ومحاولة إيجاد منافذ مشتركة بينهما.
لكن وفي بداية العصر الحديث، ومع بزوغ فجر العقلانية الحديثة، التي افتتح القول فيها رونيه ديكارت، ظهرت فلسفة جديدة أقامت قطيعة معرفية مع الفلسفات السابقة، مدشنة ذلك بمنهج علمي جديد، في الاستقصاء والبحث عن "الحقيقة"، بطريقة تفكير جديدة، وقواعد منهجية بسيطة وصارمة، تقوم على أساس مبدأ "مسح الطاولة".
في كتابه "مبادئ الفلسفة" يشبه ديكارت الفلسفة بـ"شجرة" جذورها الميتافيزيقا وجذعها علم الطبيعة وأغصانها الكبرى المتفرعة عن هذا العلم هي: الطب، والميكانيكا، والأخلاق.
أما إيمانويل كانط، صاحب كتاب "ما الأنوار؟"، الذي ظهرت فلسفته في عز الصراع بين العقلانيين والتجريبيين، والذي عمل هو على التخفيف من وطأته، محاولاً إعطاء تعريف كوني للفلسفة، وقد أورده في "نقده للعقل الخالص"، معتبراً أنها ذلك "العلم بالعلاقات بين جميع المعارف والغايات الأساسية للعقل الإنساني، والفيلسوف بهذا المعنى ليس فنان العقل، بل المشرِّع له".
وبعد أن قطعت الفلسفة أشواطاً في محاولة إيجاد تعريف شافٍ وكافٍ لها، جاء كارل ماركس، الذي كان يعتبر نفسه عالم اجتماع أكثر منه فيلسوفاً، بمفاهيمه المادية -وبجرة قلم- عاب على الفلسفة السابقة له اقتصارها فقط على تفسير العالم ومحاولة فهمه، يقول صاحب الرأسمال "إن الفلاسفة يكتفون بتأويل العالم، في حين أن المطلوب هو تغييره"، لكن أوليس تغيير العالم يتطلب فهمه أولاً، أو على الأقل محاولة تأويله بنوع من التأويل؟ يُسائل هايدغر مقولة صاحب ماركس.
ومهما يكن فقد دأب الباحثون عموماً على تقسيم مباحث الفلسفة إلى ثلاثة أقسام أساسية هي:
أولاً: "الإبستيمولوجيا وموضوعها المعرفة العلمية، حيث تتساءل عن العقل وحدوده، وعن إمكانية تحصيل المعرفة، وما إذا كانت المعرفة نسبية أم كاملة.
ثانياً: الأنطولوجيا، وعلى رأسها الميتافيزيقا؛ إذ تطرح مسألة الوجود الإنساني، وكذا الوجود الإلهي، ومسألة العدم، ومفاهيم كالأزلية، والنهاية والموت.
ثالثاً: الإكسيولوجيا، وتركز على المبادئ والأخلاق، وماهية الخير والشر، والعلاقة بينهما، وقضايا الفضيلة، وتتساءل عن أصل الأخلاق وفصولها… إلخ
وهذه المباحث الثلاثة بدورها متشعّبة ومتداخلة فيما بينها، بحيث نجد مثلاً فيلسوفاً معيناً، أثناء تطرقه لقضية من القضايا الأخلاقية يعرّج إلى سؤال معرفي ينتمي لحقل الإبستيمولوجيا، ويتناول في موضوع آخر الأنطولوجي الوجودي وهكذا دواليك.
لذلك يمكن القول إن الحديث عن "الفلسفة" هو في حد ذاته فلسفة، كلما حاولنا الإمساك بتلابيبه ينفلت من بين أيدينا، لهذا يبقى وسيبقى رغم كل المحاولات سؤال "ما الفلسفة؟" قائماً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.