حاصروا الأجانب وقتلوا 30 ألف مسيحياً! عن “ثورة الملاكمين” في الصين التي انتهت باحتلال بكين

عربي بوست
تم النشر: 2021/12/23 الساعة 14:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/12/23 الساعة 14:57 بتوقيت غرينتش
ثورة الملاكمين في الصين/ Wikimedia Commons

رغم الاسم الغريب والأحداث الأغرب، فإن تمرد من أُطلق عليهم "الملاكمون" (ثورة الملاكمين) يعد من أهم الأحداث في تاريخ الصين الحديث، وسبباً أساسياً في سقوط الإمبراطورية الصينية، التي دامت لما يزيد عن 2000 عام، ومثّل بداية الشعور الوطني والقومية في الصين العريقة حتى قيام الثورة.

الصين في مطلع القرن العشرين

عاشت الإمبراطورية لقرون شهدت خلالها فترات ازدهار طويلة، اكتشفوا فيها البارود والورق والأنظمة الحكومية وغيرها، وبين تلك الإنجازات صراعات وحروب أهلية ومجاعات، وتناوب على الحكم مجموعة من السلالات العظيمة، وآخرها Qing تشينج.

خلال تلك القرون عاشت الصين بعزلة عن العالم، عدا قوافل تجارية تصدرها للخارج، حيث اعتقدوا أن لديهم كل ما يحتاجون إليه، لذلك لا داعي للاتصال بالعالم الخارجي، حتى وصلت أوروبا لعصر النهضة، وعصر التنوير، ومن بعده الثورة العلمية، وحققت أوروبا قمة تقدمها الحضاري في القرن الـ19، بينما كانت الصين في مكانها، ولم يمر الكثير من الوقت حتى حولت القوى الأوروبية أنظارها إلى السوق الآسيوي الضخم، ورغم انتظام التجارة بين الصين وأوروبا فإن القوى الاستعمارية دائماً ما أرادت المزيد.

ازدهرت تجارة المواد الأساسية من الصين مثل الحرير والشاي إلى أوروبا وبريطانيا في القرن الـ18، ما أدى لخسارة بريطانيا أموالها لصالح الصين، في حين أن الأخيرة لم تتبادل التجارة أو تعمل على استيراد أي بضائع، وهو ما أخلّ بميزان الاقتصاد التجاري.

فقررت بريطانيا زراعة نبات الأفيون المخدر في البنغال، على أن تقوم بتهريب الأفيون إلى داخل الصين بمساعدة بعض التجار في الموانئ، والاستفادة من العائد الاقتصادي، حتى بدأت الحكومة في القلق من زيادة نسبة مدمني المخدر، وأرسل الإمبراطور رسالةً إلى الملكة فيكتوريا، يرجوها بوقف تجارة الأفيون، لكن الرسالة لم تصل إلى الملكة قط.

بعدها أغارت الحكومة على الموانئ وأحكمت قبضتها على الأسواق، وأقرت عقوبة الإعدام في حالة التعاطي أو التوزيع، وقامت بمصادرة وحرق كميات كبيرة من المخدر.

حينها قرّرت بريطانيا التدخل فيما عُرف بـ"حرب الأفيون الأولى" (1839: 1842)، وكانت بداية التدخل الأجنبي وما يُعرف بـ"قرن الذل"، وفيها هزمت البحرية البريطانية الصين، وأجبرتها على التوقيع على "معاهدة نانكينج Treaty of Nanking" الظالمة، التي سمحت بفتح 5 موانئ للتجار الإنجليز، ودفع تعويضات لبريطانيا، والتنازل عن هونغ كونغ لصالح التاج البريطاني لـ100 عام!

لكن المعاهدة لم تحقق أهداف بريطانيا، التي سرعان ما عادت لاستخدام القوة، بعد تردد وتعنت الصين في تنفيذ عهودها، والتضييق على التجار الأجانب، وقامت الحكومة بالقبض على سفينة صينية تحمل العلم البريطاني، ورفضت الإفراج عن طاقمها الصيني، وهو ما استغلته بريطانيا في استئناف الحرب من جديد، بمشاركة فرنسا هذه المرة، بعد مقتل مبشر مسيحي فرنسي، فيما أُطلق عليه "حرب الأفيون الثانية" (1856: 1860).

أُجبرت الصين مرة أخرى على شروط ظالمة، حيث تنازلت عن مدينة Kowloon إلى بريطانيا، ودفع تعويضات من الفضة لصالح بريطانيا وفرنسا، وفتح جميع الموانئ التجارية، وجعل الأفيون مادة قانونية، والموافقة على بعثات دبلوماسية دائمة في العاصمة الصينية، ما رفضته الحكومة لفترات طويلة، إلا في حالة معاملة الصين كقوة عظمى مساوية لبلاد أوروبا، والحرية الدينية والسماح للمبشرين المسيحيين بالعمل تحت حماية الإمبراطور.

لكن الأطماع الأجنبية لم تتوقف عن القوى الأوروبية، وفقدت الصين السيطرة الآسيوية، بالهزيمة في "الحرب الصينية-اليابانية" (1894: 1895)، واضطرت إلى التنازل عن شبه الجزيرة الكورية لصالح اليابان، ما هدد مساعي الإمبراطورية في الحفاظ على تماسكها وعاداتها القديمة، وأثار ذلك سخطاً وغضباً شعبياً لا مثيل له، وأصبحت الصين العظيمة تحت نفوذ وسيطرة بدرجات متفاوتة من 8 دول مختلفة، هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا وإيطاليا واليابان والإمبراطورية النمساوية-المجرية والولايات المتحدة الأمريكية.

ثورة الملاكمين

أدت سلسلة الحروب والمعاهدات الظالمة لغضب شعبي، وعداء ضد الأجانب والمسيحيين، وتم اعتبار المسيحيين الصينيين خونة وعملاء للغرب، وازدادت الكراهية مع الوقت، وبدا واضحاً أن نقطة الانفجار قادمة لا محالة، ومع التدهور الاقتصادي وفساد المحاصيل الزراعية، والمجاعات بسبب الجفاف، كانت البيئة مناسبة للجماعات المتطرفة والمجتمعات السرية للازدهار.

وأبرز تلك الجماعات هي "القبضات الصالحة والمتناغمة"، التي اعتمدت على أسس دينية، وطالبت بقتل الأجانب ومنعهم من دخول البلاد باعتبارهم السبب في تدهور أحوال الإمبراطورية، ونادوا بالعزلة من جديد للحفاظ على القيم التقليدية للصين، أُطلق عليهم بعد ذلك "الملاكمون"، لأنهم اهتموا بالرياضة وفنون القتال، واستخدموها في استعراضات عامة، واعتقدوا أنها تحميهم من الرصاص والمدافع.

تكونت الجماعة في مدينة Shantung، حيث زاد النفوذ الألماني هناك، وبعد مقتل اثنين من المبشرين الألمان وقع ميناء المدينة تحت الاحتلال الألماني، وأصبحت المدينة بشكل أو بآخر مستعمرة ألمانية، وبدأ سباق بين القوى الأوروبية لحصد مناطق مماثلة في الصين.

استغلت الجماعةُ العاطلين عن العمل والناقمين على الاحتلال الأجنبي، والذي كان السبب الرئيسي في تكوين الجماعة، وانتقدوا الحكومة الصينية في البداية، لكنهم سرعان ما أدركوا أن الإمبراطورة المتحفظة إلى جانبهم، فرفعوا شعار "ساعدوا سلالة تشينج ودمروا الأجانب"، وساهم في نشر أفكارهم بعض تجاوزات المبشرين الأوروبيين، والسلطة المطلقة التي حصلوا عليها، بسبب خشية الحكومة الصينية من بلادهم الأوروبية، وهو ما جعل بعض العامة يعتنقون المسيحية فقط من أجل الامتيازات اللاحقة!

أحس الجميع بالظلم والغضب بالطبع، وعكفت الجماعة على مهاجمة المسيحيين وتدمير الكنائس، وقتل المصلين ورجال الدين، وبعد ضغط من الدول الغربية اضطرت الحكومة لمواجهة الجماعة في نهاية عام 1899، وهو ما دعا الملاكمين للانتقال شمالاً باتجاه العاصمة "بكين" ومدينة "تيانجين"، التي كانت تحت سيطرة اليابان، ومقراً للبعثات الأجنبية وسفارات الدول.

خلال الطريق قاموا بمهاجمة الأجانب والمسيحيين، وتمكنوا من تنظيم أنفسهم متسلحين بأسلحة خفيفة، مثل الرماح والسيوف وأدوات الزراعة، ودمروا خطوط السكك الحديدية، جامعين دعماً شعبياً ضخماً مع زيادة أعدادهم في الطريق، ورغم مواجهات مع بعض رجال الحكومة من دعاة التطور والانفتاح فإن الإمبراطورية دعمتهم رسمياً.

حيث رأت الإمبراطورة بالإنابة Tzu'u Hzi الملاكمين فرصة يمكن استغلالها، فقد حاولت توظيف المتمردين في التخلص من النفوذ الأجنبي في البلاد، ومواجهة الاحتلال، آخذة في الاعتبار خطورة الموقف وخشية تحول غضب الجماعة ضد الحكومة، خاصة مع التأييد الكبير من العامة في المدن والقرى.

55 يوماً في بكين

حوّل الملاكمون أنظارهم تجاه الدبلوماسيين الأجانب، واستعدوا لمهاجمة مدينة بكين المحصنة، مقر البعثات الأجنبية، الذين استشعروا الخطر وطلبوا قوات أجنبية لحمايتهم، ووافقت الحكومة الصينية بتردد في مايو/أيار 1900، ووصل ما يقارب 400 جندي أجنبي من الدول الثماني، من الأساطيل المتركزة حول الصين، في انتظار وصول تعزيزات أخرى إذا استدعى الأمر.

ومع اقتراب المتمردين من مقر البعثات حاصروا المدينة، وقاموا بأعمال تخريب للمباني الغربية وقتل للأجانب، وقطعوا الطريق أمام وصول أي تعزيزات بتدمير خط السكك الحديدية هناك، وبعدها بأيام قليلة تم اغتيال السفير الياباني، وأرسل السفير البريطاني رسالة عاجلة طلباً للمساعدة، وبالفعل تم جمع ما يزيد عن 2000 جندي أجنبي، تحت سلطة قائد الأسطول البريطاني في البحار الصينية، الأدميرال سير إيدموند سيمور، وتوجهوا صوب مدينة تيانجين، لكنهم فشلوا في الوصول بسبب قطع القطارات، وهزموا في بعض المناوشات، ما أدى لانسحابهم.

حتى الآن لم يكن واضحاً موقف الجيش الصيني من الأحداث، لكن تم عقد اتفاق وتحالف رسمي مع الملاكمين ضد القوات الأجنبية، وأعلنت الإمبراطورية كذلك الحرب على كل الدول الغربية، والتحالف الثماني، بالإضافة إلى إسبانيا وهولندا وبلجيكا، وهي الدول التي مثلت البعثات الدبلوماسية.

وتم إخطار الأجانب بأن وجودهم غير مرغوب فيه، وأمهلت الحكومة البعثات الدبلوماسية 24 ساعة للرحيل عن المدينة، وهو ما كان يعد انتحاراً بالطبع، فرفضوا، وحينها فتحت القوات الصينية النيران على المدينة، وبدأت الهجوم على مقر البعثات الأجنبية، وعندما حاول السفير الألماني استئناف التفاوض، تم الهجوم عليه خارج المدينة وقتله!

لكن بعض قادة الجيش الصيني وكبار المسؤولين أدركوا عبثية القرار، بالأخص في جنوب الصين، وأعلنوا رسمياً امتناعهم عن تنفيذ الأمر، والعصيان ضد الإمبراطورية، في حين حاول البعض الآخر إعاقة الهجوم على المقر الأجنبي، وماطلوا في إمداد المدافع الثقيلة، ويُنسب لهم الفضل في إنقاذ المدنيين الأجانب، ويُقال إن الإمبراطورة نفسها أرسلت شحنات من الفاكهة والطعام لمساعدة المدينة.

استمر الحصار 55 يوماً، عانى فيها المواطنون الأجانب والمسيحيون الصينيون من الجوع والرعب والتهديد، في حين حاول الملاكمون وحلفاؤهم من الجيش اختراق المقر أكثر من مرة، ونجحوا في الضغط على المدافعين، حتى تقلصت المنطقة الآمنة كل يوم، وفقد المدافعون أعداداً كبيرة مع عدم وجود مؤشر لوصول المساعدة قريباً.

حتى اكتمل الاتفاق بين دول التحالف الثماني، وشقت قوة دولية مشتركة قوامها 20 إلى 50 ألف مقاتل طريقها خلال الصين، معظمها من اليابان وروسيا والهند البريطانية، بحكم القرب من الصين، ونجحوا في سحق المقاومة الصينية واحتلال مدينة تلو الأخرى، وتحول الأمر إلى سباق بين الدول الكبرى على من يصل أولاً، وكانت بريطانيا أول الواصلين لمقر البعثات في بكين، في 14 أغسطس/آب 1900.

النهاية

هربت العائلة الإمبراطورية من العاصمة مع اقتراب القوة الدولية، مع معظم المسؤولين الكبار وقادة الجيش، وتُرك الآلاف من جماعات الملاكمين للدفاع عن المدينة، مع مجموعة من الجيش الصيني، لكن سرعان ما قُضي عليهم، وشنت القوات الغربية حملة انتقامية شرسة، بالأخص من اليابان وروسيا، حيث قاموا بنهب وتخريب المدينة، والإعدام الجماعي وجرائم الاغتصاب.

تسبب القتال منذ ثورة الملاكمين وما بعدها في مقتل ما يزيد عن 100.000 مدني، من بينهم 30.000 مسيحي صيني، واستمر القتال في أرجاء الصين لأشهر، حتى انتهى تدريجياً بعد القضاء على تمرد الملاكمين، وحالة شِبه استسلام من الصين، واستمر احتلال العاصمة لعام تقريباً.

وفي الـ7 من سبتمبر/أيلول، تم توقيع "معاهدة الملاكمون"، أو "Boxer Protocol"، وبموجبه انتهى الصراع، وتم إجبار الصين على دفع ما يقارب 330 مليون دولار كتعويضات، ومنع الدول من تصدير الأسلحة للصين لمدة عامين، وتدمير التحصينات حول العاصمة، بالإضافة إلى الموافقة على بقاء قوات أجنبية لحماية البعثات الدبلوماسية، وإعدام عدد كبير من كبار المسؤولين، من بينهم عدد من الأمراء، لكن رفضت الحكومة وتم التفاوض على العقاب المناسب.

ترك التمرد والغزو الأجنبي الصين في حالة يرثى لها، حيث فقد الشعب إيمانه بالحكومة والإمبراطورية، وغرقت البلاد في أزمات اقتصادية طاحنة، حتى مع محاولات أخيرة للإصلاح والتطوير، وفشلت سلالة جينج في إنقاذ نفسها، وانتهى حكمها الذي دام 250 عاماً، بعد الثورة في 1911 وإقامة الجمهورية الجديدة، بعد 2000 عام تقريباً من الحكم الإمبراطوري.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عمرو عدوي
مدون مصري مهتم بالتاريخ
مدون مصري مهتم بالتاريخ الأوروبي والعصور الوسطى، والاساطير القديمة والميثولوجي
تحميل المزيد