أُلقي في السجن ونجا من الإعدام بأعجوبة.. قصة الكواكبيّ الذي عرّى استبداد السلاطين

عربي بوست
تم النشر: 2021/12/22 الساعة 13:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/12/22 الساعة 13:37 بتوقيت غرينتش
عبدالرحمن الكواكبي، أحد أشهر رواد النهضة في القرن التاسع عشر، وصاحب كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"/ أرشيفية

تمهيد

هل فكر الكواكبي فعلاً كان مقتصراً على مناهضة الاستبداد من حيث تعرية آثاره وعلله على الأمة والإنسان؟ وهل ارتكاز فكره على مركزية داء الاستبداد لم تكن بنفس الحدّة تجاه الأمة وحظها في التخلف عن الأمم الأخرى الرائدة؟ ألم يكن الكواكبي- رحمه الله- متوازناً في نظرته إلى مكامن الخلل في نهضة الأمة ورقيها، بين الاستبداد باعتباره الداء الرئيسي، وبين فتور الأمة وتقاعسها وكسلها في تهيئة البديل عن هذا الاستبداد، باعتبار ذلك أيضاً سبباً رئيساً في استئساد هذا الاستبداد؟

هذه الدراسة ستسلّط الضوء على أهم مرتكزات فكر الكواكبي، محاولة أن تعتمد التوازن الضروري لاستخلاص أهم أركان فكره التحرري- رحمه الله. 

من أجل ذلك سنعمل على تجميع لمحات رئيسة من نشأته ومحيطه ودراسته وتكوينه والمحن التي عاشها في حياته ورحلاته وأهم سياقات فكره، ثم لنعرج على بسط أهم أفكاره في كتابيه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" و"أم القرى"، لنختم الدراسة بخلاصات رئيسة حول فكره- رحمه الله تعالى.

عن حياته

ولد عبد الرحمن الكواكبي بمدينة حلب السورية في 23 من شوال سنة 1265، وينحدر من أسرة حلبية عريقة يمتد نسبها إلى علي بن أبي طالب، وكان محيطه الأسري محيطاً علمياً بامتياز، فهو ابن الشيخ أحمد الكواكبي، أحد مدرسي الجامع الأموي الكبير، "وآل الكواكبي أسرة قديمة في حلب هاجر إليها أجدادهم منذ أربعة قرون، ولهم شهرة واسعة ومقام رفيع في حلب والأستانة، يرجعون بأنسابهم إلى السيد إبراهيم الصفوي أحد أمراء أردبيل العظماء. ولهم آثار مشهورة، منها المدرسة الكواكبية في حلب"، كما ذكر زيدان جرجي، في تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر- الجزء الأول.

تلقى الكواكبي- رحمه الله- تكوينه الأول في إحدى المدارس الأهلية، ثم درس العلوم الشرعية في المدرسة الكواكبية "وكانت مدرسة تسير على الطريقة الأزهرية فيما يقرأ من كتب، وما يتبع من منهج" (أمين أحمد، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، دار الكتاب العربي بيروت لبنان، بدون تاريخ، ص 250)، وعُرف بشغفه للعلم وللدراسة وتعلم اللغات، بحيث أتقن العربية والتركية وبعض الفارسية، ووقف على العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحديثة".

وبعد إتمام دراسته تقلّد عدة مناصب رسمية وغير رسمية، حيث عُيّن مديراً لجريدة الفرات الرسمية من 1292هـ إلى 1297هـ، ثم رئيساً لكتاب المحكمة الشرعية، وعُيّن أيضاً رئيساً أولاً لغرفة التجارة في حلب، ورئيساً لمجلس إدارة مصرف البنك المركزي، ثم عين قاضياً شرعياً ثم رئيس بلدية، كما أسّس جريدة مستقلة اسمها الشهباء في حلب سنة 1293هـ.[1] وقد ذكر حفيده سعد زغلول الكواكبي مختلف المناصب التي تقلدها في كتابه "عبد الرحمن الكواكبي-السيرة الذاتية".

الكواكبي في المحنة

كما عاش الكواكبي- رحمه الله- محنة مع سلطات حلب؛ حيث عطل والي حلب "قبرصلي كامل باشا" جريدة الشهباء التي صدر أول عدد منها يوم الخميس 27 ربيع الثاني عام 1294هـ، وتكلف هو بالتحرير فيها وعمره آنذاك الثانية والعشرون، فيما استعار لها اسم السيد "هاشم العطار" ضمانة لحصوله على ترخيصها كما يحكي هو نفسه متحدثاً إلى محرر جريدة "القاهرة" (العدد الأول 3 أبريل 1902):

"علمتُ أن الحكومة تخاف من القلم خوفها من النار، ولا تعطي امتيازاً بجريدة لمن تعتقد أنّه على بيّنة من أمره، ووتيرة من عمله، فاتفّقتُ مع الحاج هاشم العطار لبساطته وسذاجته، على أن يطلب هو الامتياز، وأستلم أنا التحريـر والتحبيـر، ومـا مضى زمن على طلب الرجل المشار إليه إلّا وصدرت الإدارة السنية بالسماح له بإنشاء الجريدة، مما لا يمكن أن أحصل عليه أنا ولـو أنفقـت كـلّ مـا أملك، ولكننا لم نتوفق في إصدار "الشهباء" بأكثر من ستة عشر عدداً في خلال ستة أشهر، لأننا ما كنا نصدر بضعة أعداد إلا وتصدر الأوامر بإيقافنا وتغريمنا شيئاً من المال، فرأيت أن الهدى بالعدول عن العمل، فتركنا "الشهباء" آسفين بعد أن تكبدنا من الخسائر الشيء الكثير"، ثم ما لبث أن أصدر جريدة  ثانية باسم "اعتدال" صدر العدد الأول منها بتاريخ 5 شعبان 1296هـ، "ولم يكن حظ هذه الجريدة غير حظ سابقتها (الشهباء) من حيث رعاية السلطة لها؛ إذ لم تلبث أن عطلتها أيضا…".

وتتابعت تضييقات السلطات العثمانية للشيخ الكواكبي، ووصلت هذه التضييقات إلى حد اتهامات وما استتبعها من اعتقال وإيداع في السجن، ومنها اتهام والي حلب الجديد "عارف باشا" لعبد الرحمن الكواكبي أنه منضم إلى عصابة أرمينية، وأنه أوعز إلى أحد الناس ليرشق قنصل إيطاليا بالحجارة أصابت ظهره، وسُجن وحوكم بالإعدام، إلا أن محكمة بيروت برأته من حادث رشق القنصل الإيطالي، بعدما تبين أن التهمة ملفقة وأنها كيدية من الوالي؛ نظراً لشدة النقد الذي كان يتلقاه من عبد الرحمن الكواكبي، وبعدها عزل والي حلب.

وقام الكواكبي برحلات إلى بلدان عديدة طلباً للعلم وأخذاً من تجارب الأمم الأخرى، مما جعله يكتسب معارف عديدة من خلال هذه التجارب مكنته من امتلاك رؤية متناغمة للمجتمع والدولة المنشودتين.

فلقد سافر إلى إفريقيا الشرقية والهند وجنوب آسيا، ثم الحجاز والخليج العربي ومصر التي "وجد بها كذلك مجتمعاً خصباً من المناضلين والثوار والمثقفين والعلماء. وجد فيها السادة: رشيد رضا، ومحمد كرد علي، وإبراهيم سليم النجار، وطاهري الجزائري، وعبد القادر المغربي، ورفيق العظم، وعبد الحميد الزهراوي،… وكثيرون غيرهم تتلمذوا على يد جمال الدين الأفغاني، وشربوا من أفكاره وتعاليمه، والذين كان يلتقي بهم الكواكبي، أو بكوكبة منهم، مساء كل يوم في مقهى "سبلندد بار"، بعد أن استقر بمصر، وسكن قرب الأزهر الشريف في شارع الإمام الحسين…" (عمارة محمد، عبد الرحمن الكواكبي شهيد الحرية ومجدد الإسلام، دار الشروق، الطبعة الثانية 1408هـ-1988م، ص 37).

وفاته

وتوفي الكواكبي رحمه الله يوم الجمعة 6 ربيع الأول 1320 هجرية الموافق 12 حزيران 1902م، ولقد نعاه صديقه الشيخ رشيد رضا في جريدة المنار تحت عنوان "مصاب عظيم بوفاة عالم حكيم" قائلاً: "في يوم الجمعة 6 ربيع الأول أصيب الشرق بفقد رجل عظيم من رجال الإصلاح الإسلامي، وعالم عامل من علماء العمران، وحكيم من حكماء الاجتماع البشري، ألا وهو السائح الشهير، والرحالة الخبير، السيد الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الحلبي مؤلف كتاب (طبائع الاستبداد) وصاحب (سجل جمعية أم القرى) الملقب فيه بالسيد الفراتي، اختطفت المنية منا بغتة هذا الصديق الكريم، والولي الحميم، بل هدمت منا الركن الركين، وقوضت أقوى الدعائم والأساطين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لو كان الرثاء والتأبين من موضوع المنار لرثيته بما يليق بخَطْبِه العظيم، وما كنت لأستعير المدامع لأستعبر القارئ والسامع، ولا لأستمدّ الرثاء من خيال الشعراء، ولا الحزن من فؤاد الخنساء، وإنما أستملي القلب بعض ما يجد من الكرب، فإنه ما أحزنني خطب كخَطْبِه، ولا أَمَضَّنِي كَرْب ككربه. حزني عليه دوره مسلسل … مهما انتهى إلى النفاد انقلبا… أرأيت رجلاً كريم الأصل كبير العقل تربّى أحسن تربية وتعلم أحسن تعليم ودخل في الأعمال المختلفة وتصدى للمشروعات المتعددة وكتب في أدق المسائل أحسن الكتابة وساح في البلاد واختبر أحوال الأمم حتى بلغ أشده واستوى، كيف يكون حاله وما هي درجة استعداده؟ هذا هو صديقنا الذي فقدنا بالأمس فكأنما فقدنا به الشمس". 

يُتبع في المقالات القادمة، إن شاء الله.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد بوعشرين
كاتب وباحث في قضايا الفكر السياسي الإسلامي
ناشط حقوقي وسياسي، وكاتب وباحث في قضايا الفكر السياسي الإسلامي، من مواليد مدينة مكناس بالمغرب، خريج كلية الحقوق جامعة المولى إسماعيل تخصص اقتصاد، حاصل على الماجستير في الفكر الإسلامي من جامعة بيروت الإسلامية، ودبلوم دكتوراه في الفيزياء من جامعة محمد بن عبد الله بفاس، ناشط جمعوي ورئيس سابق لجمعية منبر الحوار للتربية والثقافة والفن.
تحميل المزيد