خرج الرئيس نجيب ميقاتي من مقر الرئاسة الثانية بغضب وسخط ارتسما بوضوح على وجهه، وما هي إلا لحظات حتى اجتاح وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية شريط مصوّر قصير يوثّق لحظة خروج رئيس الحكومة متجهماً مسرعاً ومختنقاً صوته.
"سيستقيل ميقاتي"، "تعرّض لسوء استقبال عند بري"، "لن يمرر الصفقة"، "لن يساوم على استقلالية القضاء".
أُرفقت هذه العبارات وسواها بالفيديو، جميعها تعكس اضطراب الأجواء بين الرئيسيْن، ويشغل الرأي العام المنهك بالأزمات المتناسلة والفقر المدقع والضيق الخانق من السلطة والمصارف في آن، لكن الحقيقة في مكان آخر.
في الواقع، وبعد تعطيل دام سنة وشهراً، جاء ميقاتي رئيساً للحكومة وفق دفتر شروط التزم به أمام قوىً عظمى. أوّل تلك الشروط وأبرزها استمرار تحقيق المرفأ بقيادة القاضي طارق البيطار، بل يُقال إن ميقاتي سمع من أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش صبيحة يوم غضبه، تأكيداً على هذه النقطة تحديداً. أمّا ثاني الشروط فيقضي بإجراء الانتخابات النيابية في موعدها، في حين ينطوي ثالثها على التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وهذا يعني أنّ التسوية التي تم الكلام عنها، إذا ما مرت، ستطيح بالشرط الدولي الأول في الوقت الذي تحوم فيه شكوك كبيرة حول إمكانية تنفيذ الشرطيْن الثاني والثالث، في ظل الاستعصاء الداخلي والتوتر الكبير بين الرئاستيْن الأولى والثانية.
وفق مصادر مطلعة، كانت تقضي التسوية بإجراء مناقلات واسعة على مستوى رؤوس المؤسسات القضائية، أي من رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، مروراً بمدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات، والمدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم، وصولاً إلى القاضي طارق البيطار.
من جهتهم، لم يكن الرؤساء الثلاثة بعيدين عن أجوائها، علماً أنّه كان يقضي بأن يسبق قرار من المجلس الدستوري تلك التبديلات، بما يؤمّن خروج الأطراف راضين مرضيين لنتائج التسوية المذكورة.
لعب ميقاتي وهواجس عون
طرح التسوية سبقه إبلاغ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ميقاتي، رفضه الاستمرار بتصريف الأعمال من دون عقد جلسات لمجلس الوزراء وبرئاسته. لم يكتفِ عون بهذا القدر وصعّد، إذ أبلغ ميقاتي أنّه يتعيّن عليه الدعوة لجلسة حكومية بمن حضر، فإذا غاب الثنائي الشيعي على ميقاتي أن يفهم رسالتهما. خطوة عون جاءت نتيجة شكوك رئاسية حول اتفاق محبوك بين رئيس مجلس النواب نبيه بري وميقاتي بهدف الإطاحة بما تبقى من أيام العهد عبر تعطيل دور رئيس الجمهورية وصولاً إلى حد إلغائه إذا ما استطاعا إلى ذلك سبيلاً.
من جانبه، يتوجس عون من موقف حزب الله، فمن جهة يقول إنّ ما يجمع التيار الوطني الحر والحزب أعمق وأمتن مما يظن البعض، غير أنّه يدرك في الوقت نفسه أنّ التحالف مع بري يحتل قائمة أولويات الحزب. وسمع عون من مصادر متعددة أنّ حليفه -حزب الله- يريد حسم 27 مقعداً شيعياً في الانتخابات المقبلة، قبل أي أمر آخر، كي يمسك بناصية الميثاقية بيد من حديد، وبعدها تأتي التحالفات الأخرى مع التيار والسنة والدروز وغيرهم. كما سمع عون ما يتردّد في أوساط شيعية مطلعة من تساؤل حول فائدة نيل المعارضين لحزب الله 101 مقعد في المجلس النيابي العتيد، في وقت يمسك فيه الثنائي بميثاقية المجلس من خلال تأمين 27 مقعداً لـ27 شيعياً.
برّي والإجراءات الاحترازية
في العاشر من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بلغت مسامع بري أخبار صفقة تعيينات كاملة الدسم، طُبخت بين نجيب ميقاتي ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، كان لا بد لبري أن يتحرك ويُلجم تلك التسوية. وعليه رَفَعَ السقف وأدلى بتصريح عنيف لصحيفة الشرق الأوسط السعودية، وأعطى حكومة ميقاتي مهلة شهراً ونصف الشهر للنجاح أو الفشل (المهلة انتهت عملياً)، منتقداً بشدة "التلهي بالتعيينات، ورغبات بعضهم في السيطرة على هذا الموقع أو ذاك".
وآنذاك قال بري: "خلال 45 يوماً لا بد للحكومة من أن تكون قد أنهت النقاش مع صندوق النقد الدولي، أو على الأقل خطت خطوات عملية في هذا الاتجاه، وثانياً حل مشكلة الكهرباء، وإلا فإنها ستكون قد فشلت". لم يتحقق شيء، فبعد أحداث الطيونة غرقت الحكومة في دوامة التعطيل وتصريف الأعمال، في مسار ما ينفك يتأزم.
إذن، نحن أمام تسوية ميقاتية-باسيلية، في أكتوبر/تشرين الأول، أطاحتها تسوية بِريّة-ميقاتية، في ديسمبر/كانون الأول، وسط كلام أممي عن عقوبات جديدة ستطال موظفين من الفئة الأولى، ورجال أعمال محسوبين على قيادات سياسية من الصف الأول، ارتكبوا مخالفات موثقة بحق الشعب اللبناني والدولة نفسها.
الموقف الدولي من التسوية
من الجليّ إذن أنّ كل تسوية لا ترضى عنها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، ولا يمنعها حزب الله لن تمر. فأرانب القيادات اللبنانية لم يعد سهلاً إخراجها من الأكمام في ظل عدم الثقة المطلق من جهة، ومواصلة تكرار تلك الألعاب والصفقات والتسويات التي لم تكن يوماً إلا على حساب الناس، من جهة ثانية.
ولعل نقاط ارتكاز المجتمع الدولي تتجلى اليوم بعنصرين: الجيش وقيادته، ومجلس القضاء الأعلى ورئيسه، حيث يأتي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في أدنى الدرجات، شرط أن يمتثل لشروط المجتمع الدولي؛ كي لا يتعرض لأقصى العقوبات وأعنفها، فلم يعد على رأس أي من الساسة خيمة، ولو أنّ البعض لا يتأثر بعقوبات، لكن أصحاب الأموال المودعة في الخارج ترتعد فرائصهم من عقوبة تمنع عنهم هذا المال وما ينجم عنه.
ختاماً، يبدو ميقاتي في موقع مريح اليوم، لكنه غير مضمون، فرِضا الغرب مرتبط بالأداء، أمّا الخليج العربي فلم يتطلع بعد إليه باعتباره "كاظمي" لبنان، أي أنّ نفوذ العرب وإيران عليه يكادان يكونان متوازييْن، كما هي وضعية الكاظمي، بل ما زالوا ينظرون إليه كونه في المعسكر الخصم، وهذا يعني أنّ ميقاتي يحتاج إلى تثبيت مشروعيته العربية ببذل جهود عربية أكبر إلى جانب الغربية، حتى يرتاح لمستقبله السياسي، ويضمن استمرار استثماراته الموزعة في بلاد العالم الواسع.
لذلك، يكون طرح الاستقالة غير ذي جدوى وغير ذي جدية؛ لأن الاستقالة اليوم إذا ما كانت مطروحة فعلاً لا تُصْرَف لا عند العرب ولا عند الغرب، ولا حتى محلياً، بل من كيس ميقاتي وحده، والأوان اليوم لم يحن بعد للإقدام على خطوة ناقصة كهذه، خاصةً أنّ ميقاتي يعد العدة لخوض الانتخابات النيابية بلائحة مكتملة شمالاً، وبدعم لوائح على طول لبنان وعرضه، بعكس ما كان يروج له بعزوفه عن الترشيح منذ انتفاضة 17 تشرين 2019 وحتى الأمس القريب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.