يبدو أن تطمينات وزير الخارجية الإسباني جوزيه خوسي ألباريس، حول قرب عودة العلاقات الإسبانية المغربية إلى طبيعتها، أضحت محل شكوك كثيرة، فالرجل منذ مدة وهو يحاول إقناع الصحافة الإسبانية بأن هذه المهمة تحتاج إلى قدر كبير من الهدوء والسرية في التفاوض وإبعاد وسائل الإعلام.
أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ حاول وزير الخارجية الإسباني أن يجيب عن انتقادات مختلف النخب الإسبانية السياسية والمدنية والإعلامية، واتهاماتها للدبلوماسية الإسبانية بالانتظارية، في الوقت الذي تعمق فيه الدبلوماسية المغربية عزلة مدريد.
مؤشرات تطور العلاقات
استعان وزير الخارجية الإسباني بثلاثة مؤشرات أساسية لتأكيد وجود تطور مهم في التفاوض بين الطرفين، أولها خطاب الملك محمد السادس في العشرين من أغسطس/آب، والذي لمّح فيه لقرب عودة العلاقات مع إسبانيا إلى طبيعتها، وربما إلى أحسن مما كانت عليه، والثاني هو حضور السفارة الإسبانية لجملة من الأنشطة الرسمية في الرباط، بعد أن كانت مبعدة عنها، وثالثها هو تقدم مسار التفاوض الهادئ مع المغرب حول معبرَي سبتة ومليلية، دون أن يكشف عن أي حيثية في هذا الاتجاه.
لكن هذه التطمينات سرعان ما تبخّرت، بعد أن أقدمت الخارجية الإسبانية على استدعاء القائم بأعمال السفارة المغربية بمدريد، لمساءلته حول بلاغ وزيرة الصحة المغربية، الذي يَتّهم إسبانيا بالتساهل في مراقبة جواز التلقيح في المطارات، وبعدم الصرامة في تطبيق الإجراءات الصحية الاحترازية بحق المسافرين من مطاراتها نحو المغرب.
وزارة الصحة المغربية كانت أصدرت بلاغاً، تدعو فيه مواطنيها العالقين في دول أوروبا للتوجه نحو البرتغال، عوضاً عن إسبانيا، لتمكينهم من العودة لبلادهم، وهو ما أثار غضب مدريد، وألقى كثيراً من الشكوك حول خلفيات هذا البلاغ، وما إذا كانت الرباط ماضية في سياستها لمقاطعة إسبانيا.
المغرب، ومنذ خطاب ثورة الملك والشعب في العشرين من أغسطس/آب الماضي، لم يظهر في تصريحاته الرسمية أيُّ مؤشر على وجود تطور ما في العلاقات مع إسبانيا، فقد أقام الملك حفل اعتماد عدد من السفراء من دول أوروبا، وكانت مناسبة بالنسبة للسيدة كريمة بن يعيش، سفيرة المغرب، للعودة إلى مقر عملها في مدريد، لكن حتى الساعة لا تزال السفيرة تُباشر عملها من الرباط.
الداخل الإسبانيّ يتساءل
الصحافة الإسبانية ومختلف المراقبين والمحللين في الداخل لا يلتفتون كثيراً إلى تطمينات ألباريس، ويعتبرون أن المؤشر الحقيقي لعودة العلاقات مع الرباط إلى طبيعتها هي عودة سفيرة المغرب إلى مقر علمها بمدريد، وفي الوقت ذاته، فإنها أبدت قلقاً شديداً من خطاب الملك بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، الذي انتقد فيه بشدة الدول التي لا يزال موقفها من قضية الصحراء يتسم بالازدواجية والتردد، في إشارة منه إلى إسبانيا وألمانيا.
ثمة مؤشرات أخرى مقلقة ظهرت في غضون مُتم هذه السنة، فقادة الجيش الإسباني لم يكونوا معتادين على الحديث في مثل هذه الظروف، فقد عرفت العلاقات المغربية الإسبانية توتراً أكثر من مرة، دون أن يثير ذلك حفيظة العسكريين ويدفعهم نحو الحديث، لكن اتجاه المغرب إلى تقوية تحالفاته مع نادي الكبار، وبشكل خاص فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، واتجاه علاقاته مع "إسرائيل" في منحى التعاون العسكري والأمني وتطوير الصناعة الحربية (صناعة الطائرات)، فضلاً عن امتلاك الرباط أسلحة حديثة وتسلمها لطائرات وعتاد عسكري متطور، دفع كبار قادة الجيش الإسباني إلى الخروج بتصريحات لطمأنة الرأي العام الإسباني، بأن مستوى تسلح المغرب لم يصل إلى حد الإخلال بموازين القوى، وأن المغرب لا يفكر في استعادة سبتة ومليلية عسكرياً.
الموقف الجديد الذي أعلنت عنه برلين مباشرة بعد انتقال السلطة من المستشارة أنجيلا ميركل إلى المستشار الجديد أولاف شولتز، بخصوص النزاع حول الصحراء، صدم مدريد، وعمّق من عزلتها.
فمدريد وبرلين كانتا المعنيتين بخطاب الملك محمد السادس، لكن إشادة برلين في بلاغ خارجيتها الجديد بمقترح المغرب للحكم الذاتي وبالقرار الأممي الأخير حول الصحراء (القرار 2602)، ووصفها لجهود المغرب بكونها "مساهمة مهمة للمغرب في تسوية النزاع حول الصحراء المغربية"، ودعمها للجهود المبذولة من طرف المبعوث الأممي، ستافان دي ميستورا، من أجل التوصل إلى حل سياسي عادل، دائم ومقبول، على أساس القرار المذكور، جعل مدريد في عزلة شديدة.
فبرلين صرّحت بشكل واضح وعلني بأنها تريد للعلاقات المغربية الألمانية أن تعود لسابق عهدها، تأميناً لمصالحها من جهة، وخوفاً من أن تكون مبعدة عن الفرص التي يوفرها المغرب باعتباره منصة استراتيجية للتوغل إلى العمق الإفريقي، خصوصاً وهي ترى الاستقطاب الدولي الذي توفره المنطقة، وترى حجم التحالفات الدولية التي دخل فيها المغرب في الآونة الأخيرة.
إسبانيا ومخاوف العزلة
إسبانيا كانت تعتقد أن دخول المغرب في توتر معها ومع برلين سيوحّد الأوروبيين ضد الرباط، وسيضعف موقعها التفاوضي، ويجعلها مضطرة إلى العودة إلى دبلوماسيتها التقليدية، لكن الذي حصل هو العكس، فالمغرب دخل نادي الكبار في تحالفاته الاستراتيجية (فرنسا، بريطانيا، الولايات المتحدة الأمريكية)، ولم تؤثر أزمته مع مدريد وبرلين في علاقاته مع الاتحاد الأوربي، بل على العكس من ذلك، فإنه سعى إلى توسيع تحالفاته داخل الاتحاد الأوربي بالرهان أولاً على دور فرنسا، ثم على دول أوروبا الشرقية، وإقامة تحالف مع ما يسمى بدول مجموعة "مجموعة فيشغراد"، التي أكدت في قمة جمعتها بالمغرب على عزمها على الدفاع عن مصالح المغرب داخل الاتحاد الأوربي، في مقابل أن يضمن لمصالحها ممراً آمناً إلى إفريقيا، ليأتي بعد ذلك تغير الموقف الألماني، المؤشر على نهاية التوتر بين برلين والرباط، ليضع مدريد في عزلة قاتلة، تقوي الموقع التفاوضي للمغرب.
كثيرون لم ينتبهوا إلى تصريحات وزير الخارجية الإسباني أمام لجنة الخارجية لمجلس الشيوخ، أي مباشرة بعد تغير الموقف الألماني، فقد اضطر أن يواجه الضغوط التي تُشكّلها الانتقادات المتناسلة الصادرة من النخب السياسية والمدنية والإعلامية، للحديث عن سعيه لـ"بناء علاقة تتماشى مع متطلبات القرن الحادي والعشرين"، وهي إشارة تُخفي الكثير من الدلالات، فهو يريد الإقناع بأن عودة العلاقات مع الرباط، على غرار ما فعلت برلين، لا يمكن أن يتحقق باستمرار مدريد في تبنّي نفس دبلوماسيتها التقليدية مع الرباط (دبلوماسية القرن الماضي)، أي اللعب على الحبلين في موضوع الصحراء (دعم الانفصاليين في السر، والتظاهر بالحياد، ودعم جهود الأمم المتحدة في تسوية النزاع في العلن).
فالرجل يبعث برسالة مهمة لمنتقديه، بأن التقدم الذي ينتظرون منه إنجازه مع الرباط لعودة العلاقات إلى طبيعتها، يقتضي أن تغير مدريد من موقفها من الصحراء، وتدعم مقترح المغرب في الحكم الذاتي، وأن أي تأخر في ذلك يعني مزيداً من عزلة إسبانيا وتقدم المغرب في حل قضيته، وبل ويمكن أن يدفع المغرب لمفاجأة إسبانيا والمطالبة باسترجاع المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية.
ما الذي قد يحدث؟
التقدير أن تباطؤ الدبلوماسية الإسبانية وانتظاريتها لا يعود إلى مستوى التوتر الذي حصل بين البلدين، ولا إلى تعنت الرباط ورفضها الاستجابة لطلبات إسبانيا في عودة العلاقات إلى طبيعتها، ولا يرجع أيضاً إلى عامل الوقت وما يتطلبه نهج الهدوء الذي يتبناه وزير الخارجية الإسباني، وإنما يعود بدرجة أولى إلى مشكلة داخلية، تهم قدرة الدبلوماسية الإسبانية على إقناع الداخل بضرورة تغيير موقفها من الصحراء.
فالهدوء الذي يطلبه ألباريس، والوقت الذي يشترطه لإنجاح مهمته، لا علاقة له بما يجريه مع المغرب من محادثات، وإنما له علاقة بما يجري داخل النخب العليا في إسبانيا، وما إذا كانت ستنجح الخارجية الإسبانية في إقناعها جميعاً بالمكاسب التي يمكن أن تحققها مدريد في حالة تغير موقفها بشكل إيجابي من الصحراء، والأضرار التي ستلحقها في حالة استمرار دبلوماسيتها التقليدية مع المغرب.
وزير الخارجية الإسباني، لاسيما بعد الموقف الألماني الأخير، يحاول أن يجعل من عزلة مدريد وسيلته لإقناع نخب الحكم العليا في إسبانيا بأن تغيير موقف مدريد لجهة دعم مقترح المغرب للحكم الذاتي، هو خيار الضرورة، الذي ستصير مدريد مجبرة عليه، إذا أرادت الخروج من المعضلة، والاحتفاظ بشراكتها القوية مع المغرب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.