على ضوء المقالات السابقة التي نشرتها على موقع عرب بوست، أثيرت ردود فعل ونقاشات تتفاوت أهميتها، إلا أنها وفي عمومها مفيدة وبناءة، إذ تعتبر علامة صحية تدفع بالنقاش وترتقي به. ولأهمية هذا النقاش ودوره في تطوير التفكير في مثل هذه القضايا والبحث فيها، ارتأيت الوقوف عند بعض ردود الفعل هذه. فلا يمكن تحقيق التراكم الفكري وتجويد الأداء البحثي وفتح آفاق النظر إلا بتوسيع النقاش ومضاعفة وجهات النظر وترسيخ تقاليد النقد البناء.
صحيح أن كثيرا مما يحسب على النقد لا يعدو أن يكون استعراضا للقوة (المتوهمة) أو معولا للهدم بدل البناء أو أداة نفي مقابل نفي مضاد، ولكن الصحيح أيضا يكمن في أننا لا نعدم جهودا معتبرة في ممارسة النقد على أصوله، أي في الاتجاه الذي يعني النظر في القول من أجل تمحيصه، وذلك بالوقوف، من جهة، على ثغراته ونقاط الضعف فيه، لتمتينها وتجاوزها، ومن جهة أخرى، بالوقوف على إنجازاته ونقاط القوة فيه لتثمينها والبناء عليها.
ومن بين النقاشات التي تدخل ضمن الصنف الثاني من النقد، وجهة نظر ترى في التيارات الإسلامية بأشكالها الحالية، خير معبر عن المرحلة الجديدة، لأنها استطاعت أن تجدد خطابها، بشكل أو بآخر، وتطور أساليبها ووسائلها، فبأي معنی، والحالة هذه، يمكن الحديث عن أفولها؟ ولذلك فإن مشروع هذه التيارات ـ حسب وجهة النظر هذه – يشكل محطة تجديدية في اتجاه تصاعدي، على غرار المحطات السابقة. فبرغم كل المحن التي نزلت عليها ورغم ما واجهته من قمع وإقصاء، لم يزدها ذلك إلا صلابة وانتشارا، أفقيا وعموديا، اجتماعيا وجغرافيا. أوَ ليست الشدة هي وقود الحركات الاجتماعية، والابتلاء هو سنة الأنبياء والمصلحين؟ فبهما يمحص الصف ويميز المغشوش من الأصيل، فالناس معادن وفي نار الشدائد تصفو معادنهم.
إن هذا النوع من الخطاب، في عموميته، لا يرقى إليه شك، ولكن سوء استعماله أو الخطأ في توظيفه قد ينقلب إلى ضده، فعندما لا تُتبين أسباب الإخفاق والفشل في الظروف بالغة التعقيد، وحين يعجز المرء عن تقدير طبيعة المعركة وحجمها والتمييز بين ما هو ذاتي وبين ما هو موضوعي، يصبح مثل هذا الخطاب حجابا يحول دون إبصار السنن الاجتماعية والتاريخية، وحائلا بينها وبين القراءة الحصيفة لموازين القوى والتقدير الدقيق للمواقف.
إن هذا الرأي، رغم وجاهته بما يملك من الشواهد الظاهرة، يقرأ مشاريع التيارات الإسلامية کمعطى مستقل ومعزول عن سياقي التاريخ والأحداث. فالتيارات هذه لا يمكن أن تفهم إلا في سياق تشكلها التاريخي، ولا يمكن أن تُقَوَّم إلا على ضوء الأهداف التي رفعتها، كما لا يمكن أن نتحدث عن منجزاتها وعن نجاحها أو فشلها إلا بالنظر إلى حجم التحديات المعاصرة لها ومدى دقة أجوبتها عليها.
إن بعض المظاهر الخارجية التي تميز زمن التيارات الإسلامية هذه، كتوسع قاعدتها وتحولها إلى ظاهرة اجتماعية وسياسية وثقافية، هي التي تحجب حالة التأزم هذه، وتحول دون اكتشاف الأزمة والنفاذ إلى جذورها. فالاستناد مثلا إلى توسع القاعدة الشعبية للتيارات الإسلامية وتحولها إلى "صوت الجنوب"، ليس بالضرورة دليلا على عافيتها ونجاعة مشروعها، بل قد تكون هناك أسباب موضوعية حملت هذه التيارات إلى تصدر الواجهات.
فهناك أولا تراجع الإيديولوجيات الأخرى وضمورها، وهي موجة عامة تدخل في إطار ما أصبح يعرف زورا بـ"موت الأيديولوجيات"، وهناك ثانيا موقع الإسلام ودوره في هذه المجتمعات، والذي استطاع أن يُرسِيَ فيها مرتكزات قامت عليها الأرضية العقدية والثقافية والنفسية التي يتم عليها تفصيل شخصية أبنائها وصياغتها، والذي مكن من تحديد السمات الخاصة لذهنية المجتمعات ونفسيتها. فكيف لا تتداعى هذه المجتمعات وتستجيب لمن يضرب على وترها الحساس فيناديها باسم الإسلام؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن استفحال الأزمات وسواد حالة اليأس والموت البطيء، يدفع بأبناء هذه المجتمعات إلى معانقة كل من يفتح لها منفذا في جدار الظلام ولو كان بالشعار والتمني، فكيف لا تكون الاستجابة لمن يعد بفتح هذا المنفذ وباسم الإسلام؟
ومن هنا وجب الحذر من الاستكانة إلى التفسيرات التبسيطية والاستسهالية، والتي لا يزيد مفعولها على تخدير قوانا الإدراكية وتسكين مواجعنا. يتطلب الأمر إذن استحضار مختلف أبعاد "الظاهرة" ومضاعفة زوايا النظر طمعا في تشخيص يقترب من حقيقة الواقع.
فهل يكفي مثلا إحالة مظاهر الفشل والإخفاق حين يتعلق الأمر بمحاولة تغيير الواقع على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية، منذ ما يقرب على قرن من الزمن، على العوامل الخارجية والتي يقال بأنها تحمي الفساد والاستبداد وتحاصر كل محاولة للتحرر، أو على العوائق الداخلية والتي تبدأ بغياب الديموقراطية وتنتهي بمختلف أشكال القمع، أم أن الأمر يتجاوز ذلك ليشمل جوانب القصور الذاتي وأزمات التصور والرؤية؟ ألا يعتبر الارتكان إلى التفسير الذي يحيل فشل تيارات "الإسلام السياسي" على الآخر (سواء كان بالداخل أم بالخارج) وشيوعه في الخطابات الإسلامية جزءًا من أزمة بنيوية يختزل الإشكال ويُقوِّض فرص الحل؟ ألا يعتبر مثل هذا التفسير غطاءً عن القصور الذاتي وحاجبا لرؤية مكامن الضعف والخلل، فضلا على أنه يعزي الذات ويعفيها من أي مسؤولية.
لا شك أن استمرار قهر الخارج وظلم الداخل يطيل من عمر مثل هذا النوع من الخطاب، ويُجهِض أي محاولة لنقد ذاتي يروم تشريح "الظاهرة" الإسلامية للوقوف على مسؤولية الذات، ليس فقط في الفشل والإخفاق، وإنما أيضا مسؤوليتها فيما حل بمجتمعاتنا من دمار على مستوى التوازنات المجتمعية والتصحر الثقافي وكذا تخلف بلداننا في تحقيق طموحاتها في الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي.
لا يمكن أن ننظر إلى هذه الحالة باعتبارها مجرد أزمة في الواقع أو خللا في موازين القوى فحسب، بل لابد من أن تدفعنا هذه الحالة إلى مساءلة مشاريع التيارات السياسية والفكرية عموما والإسلامية خصوصا، لأنه لا تستطيع التيارات الإسلامية مثلا أن تبرئ نفسها مما آلت إليه أوضاع مجتمعاتنا، وتزعم بذلك أنها غير مسؤولة عن هذه الأوضاع باعتبار أنها كانت مقصية من الساحة ومُبعَدة عن مراكز القرار. فهذا في حد ذاته يتطلب وقفة للمساءلة النقدية، إذ لماذا نجحت دائما محاولات الإقصاء والإبعاد، حتى بعد وصول بعضها إلى الحكم أو المشاركة في تدبير الشأن العام؟ ولماذا ظل التوجس والريبة والخوف هو المتحكم في العلاقة بين هذه التيارات وبين السلطة بالداخل والنظام الدولي بالخارج؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.