الحركة السيادية في لبنان أمام مفترق طرق.. هذه الحركة التي تعيد تجميع قواها المدنية والحزبية والإعلامية لمواجهة هيمنة حزب اللّه، ومن ورائه إيران، تجد نفسها أمام سؤال أساسي يجب أن تجيب عليه بسرعة، كي لا تضل الطريق في نضالها المشروع.
هل يريد السياديون في لبنان أن تكون حركتهم ضمن موجة التحرر العربية التي تجتاح العالم العربي، ولو بوتيرة متقطعة، منذ 2011، وأن تتلاءم حركتهم مع توق الشعوب العربية الأخرى، لا سيما الشرائح الشبابية فيها، للتحرر من قمع أنظمتها الديكتاتورية؟ أم انهم يريدون أن يضعوا حركتهم السيادية اللبنانية بوجه موجة التحرر العربية هذه وضدها؟ هل يريدون أن يضعوا حركتهم ضمن سياق التاريخ، أم بوجه مسار التاريخ؟
إذا اختارت الحركة السيادية اللبنانية المضي في الخيار الثاني الذي تعتمده حالياً، أي الانصياع لإملاءات أنظمة ديكتاتورية عربية تقمع معارضيها وترتكب جرائم حرب في الإقليم، فمصيرها الفشل.
ففي الكباش الحاصل بين محور الممانعة بقيادة إيران والمحور العربي ـ الخليجي بقيادة السعودية، يجنح السياديون اللبنانيون بسرعة ونزق نحو الارتماء ارتماء كليا بأحضان الأنظمة العربية، لا سيما الخليجية منها، دون أدنى تحفّظ حقيقي، كحلفاء لهم في مواجهتهم (أي السياديين) لحزب اللّه في لبنان.
وفي خيارهم هذا، لا يأخذ السياديون اللبنانيون بعين الاعتبار التداعيات السلبية التي تتأتى من جراء ذلك على سيادة بلدهم، ولا تلك التي سوف تترتب، لا سيما على المدى البعيد، في علاقتهم مع الشعوب العربية، لا سيما الشرائح الشبابية الصاعدة ضمنها، في نضالها التحرري ضد الأنظمة القمعية التي تحكمها.
في الحقيقة، باعتمادهم هذا الخيار بالارتماء في أحضان الأنظمة العربية القمعية، لا يفعل السياديون إلا التشبه بحزب اللّه الذين يواجهون، والذي يرتمي مع حلفائه اللبنانيين في أحضان محور الممانعة بقيادة إيران والأنظمة العربية القمعية الأخرى، كنظام الأسد في سوريا.
وفي توجههم هذا، يقع السياديون اللبنانيون في تعارضات كبيرة من شأنها إضعاف موقفهم وشرعية قضيتهم.
فالسيادة لا يمكن أن تكون انتقائية؛ لا يصح أن ينتقد السياديون اللبنانيون تبعية حزب اللّه وحلفائه اللبنانيين لإيران، في حين أنهم يتبعون هم السعودية والإمارات وغيرهما. كما أنه لا يجوز منطقياً للسياديين اللبنانيين أن ينادوا بتحييد لبنان عن سياسة المحاور (الذي يسمونه خطأ "حياد") كسبيل لمواجهة هيمنة المحور "الشيعي" على لبنان، في حين أنهم يرتمون في أحضان المحور "السني" بقيادة السعودية.
وكما السيادة، فإنّ الحرية أيضاً لا يمكن أن تكون انتقائية، فليس من المنطقي أن يدين السياديون اللبنانيون جرائم الحرب التي يرتكبها محور الممانعة على امتداد الإقليم حصراً، لا سيما في سوريا منذ 2011، دون أن ينبسوا ببنت شفة أمام جرائم الحرب التي ترتكبها السعودية في اليمن مثلاً، والتي توثقها في تقارير ليس فقط المنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الانسان، بل أيضاً بعض الأجهزة القانونية التابعة للمنظمات الدولية، كفريق الخبراء الدوليين والإقليميين البارزين التابع للأمم المتحدة (آخر تقرير له 14 أيلول/سبتمبر 2021).
وخصوصاً أنه ليس من المنطقي المناداة بالنضال الديمقراطي بوجه السلطة السياسية (أو "المنظومة") التي يسيطر عليها حزب اللّه في لبنان -أي كما يقول السياديون في لبنان- والتحالف بنفس الوقت بتبعية مع أنظمة عربية قمعية وغير ديمقراطية تجاه شعوبها.
وإذا لا يصح للسيادة أو للحرية أن تكون أي منهما انتقائية، فلا يمكن أيضاً فصل إحداهما عن الأخرى، إن كان ذلك على المستوى الداخلي أو حتى على المستوى الخارجي. أي بكلام آخر، لا يمكن فصل السيادة اللبنانية عن حرية الشعوب العربية الأخرى، فالسيادة لا يمكن أن تتحقق في لبنان دون حرية الشعوب التي تحيط بهذا البلد، وخصوصاً إذا وضعت هذه السيادة اللبنانية في مواجهة حرية شعوب البلدان العربية الأخرى.
وفي هذا السياق، من المفيد تذكير السياديين اللبنانيين بالمقولة الشهيرة التي أطلقها الصحفي والمؤرخ الراحل سمير قصير خلال ثورة الأرز سنة 2005: "ربيع العرب، حين يزهر في بيروت، إنما يعلن أوان الورد في دمشق"، والتي شدد من خلالها على الترابط بين السيادة اللبنانية وحرية الشعوب العربية الأخرى، أي أن سيادة الشعب اللبناني لا تنفصل عن حرية الشعوب العربية الأخرى، وهي مستحيلة التحقق بدون هذه الحرية. وهذه الملاحظة لا تتعلق فقط بعلاقة الشعب اللبناني مع باقي الشعوب العربية، بل هي تنطبق على علاقات كافة شعوب الدول العربية فيما بينها.
فالثورات المضادة التي هندستها بعض الأنظمة العربية، لا سيما الخليجية منها، في البلدان التي شهدت الربيع العربي، قد أثبتت صوابية رؤية قصير فيما خص الترابط بين نضالات الشعوب العربية، أكانت في سبيل السيادة، أم الحرية، أم لقمة العيش.
وعليه، فإنه لا يليق بالقضية السيادية اللبنانية مناداة القائمين عليها الدولة اللبنانية للخضوع لإملاءات الديكتاتوريات العربية في الإقليم في الشاردة والواردة، لا سيما فيما خص مسايرة القمع الذي تقوم به هذه الأوتوقراطيات تجاه معارضيها، أو من خلال مساهمة بعض السياديين اللبنانيين في تكريس إفلات هذه الأنظمة من العقاب من خلال مشاركتهم في تعميم السكوت عن جرائم الحرب التي ممكن أن ترتكبها، لا سيما في اليمن مثلاً.
كما أنّ ذلك لا يتلاءم مع الصورة التي يحلم بها اللبنانيون لبلدهم كواحة للحريات -لا سيما حرية الرأي والتعبير عنه- في المنطقة.
فالصحفيان جبران تويني وسمير قصير، اللذان اغتيلا لكونهما من أركان ثورة الأرز التي أدت في 2005 إلى انسحاب القوات السورية بعد 28 عاماً من التواجد في لبنان، من المؤكد أنهما لم يستشهدا كي يصبح لبنان دولة تهيمن عليها إيران عبر حزب الله، ولكنهما لم يستشهدا أيضاً كي يتم منع أي كان من التحدث بحرية في لبنان، حتى وإن كنا نختلف جذرياً مع ما يقوله أو ينادي به. فاستشهاد هاتين القامتين الفكريتين الثقافيتين قد جسّد ارتباط اللبنانيين بحرية التعبير وخلّده، ومن الضروري أن يكون السياديون اللبنانيون على قدر المسؤولية التي تلقيها على عاتقهم ذكرى شهداء ثورة الأرز في نضالهم من أجل سيادة لبنان وحرية الرأي والتعبير على أراضيه.
وعليه، إذا كان على لبنان أن يمتثل في الداخل لإرادة الدول الأخرى في كل مرة يصنف فيها نظام عربي أو غير عربي في المنطقة، حزباً معارضاً له على أنه "منظمة إرهابية" (أي كما حصل مثلاً مع جمعية الوفاق البحرينية)، وذلك كوسيلة لقمعه وإسكاته وتكميم أفواه أعضائه، وإذا كان على الدولة اللبنانية أيضاً أن تمنع هذا الحزب من التعبير عن رأيه بحرية في لبنان، فهذا سيضر ليس فقط بحرية التعبير في لبنان، بل بمبدأ سيادته أولاً.
فلا يحق لأي دولة أن تفرض إرادتها على لبنان لتخبره بمن يحق له أن يستقبل على أراضيه، أم لا، فهذه مسألة سيادية لا يمكن التهاون بها من باب مسايرة أي دولة، ولو كانت صديقة.
كما أنه لا يليق بالقضية السيادية اللبنانية رميها في أحضان بعض الأنظمة التي تهرول للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي، ضاربة بعرض الحائط حالة الاحتلال المتمادي وممارساته اليومية الشائنة بحق الشعب الفلسطيني وسيادته.
وإذا كان حزب اللّه ينتهك السيادة اللبنانية يومياً، ويقمع معارضيه بشتى الوسائل القضائية وخصوصاً "غير القضائية"، فهذا لا يعني أنه على القوى السيادية أن تتمثل به، ولا أن تقبل بخرق للسيادة اللبنانية من قبل المحور الآخر، وذلك حتى لو اختلفت الأساليب وكانت أقل نفوراً وعنفاً.
كما أنّ التدخل السافر الذي يقوم به حزب اللّه في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية، لا سيما الخليجية منها، لا يمكن معالجته بخطأ مقابل، أي من خلال فرض إملاءات على لبنان من شأنها أن تضرب سيادة دولته بعرض الحائط.
لن تستطيع الحركة السيادية اللبنانية النجاح في تحقيق مبتغاها إلا من خلال أمرين: التأكيد على الترابط بين سيادة لبنان ومبدأ تحييد لبنان عن سياسة المحاور، والإصرار على ربط سيادة لبنان بحرية الشعوب العربية الأخرى، دون أن يعني ذلك إطلاقاً العداء للدول العربية أو لأنظمتها، بل الالتزام بالتعامل معها ومع طلباتها ولو بأقل درجة من الندية التي تحفظ سيادة الدولة اللبنانية، وتؤمِّن احترام السياديين اللبنانيين لنضالات شعوب هذه الدول من أجل الحرية.
من شأن هذا الأمرين، في حال تم احترامهما بالفعل وليس فقط بالقول من قِبَل السياديين اللبنانيين، أن يخرجا القضية السيادية اللبنانية من البوتقة اللبنانية ومن التبعية لبعض الأنظمة، وأن يعلياها إلى مصاف القضايا الإنسانية الأخلاقية العادلة، أي تلك القضايا التي تتميز بدرجة عالية من الاحترام في العالم، لا سيما لأنّ القيمين عليها يكونون قد أثبتوا بذلك أنهم على درجة عالية من الوعي واحترام الآخر.
إنّ قضية بحجم وأهمية سيادة الدولة اللبنانية تستحق من القائمين عليها مراجعة مبدئية كهذه، ووقفة ضمير كهذه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.