لا شيء يوحي بانفراجة على أيٍّ من مسارات الأزمة الداخليّة في لبنان، والمسار السياسي والاقتصادي والقضائي يتابع انحداره نزولاً على أرض مزروعة بتوترات على كلّ الصعد، تُنذر بإدخال لبنان في أكثر مراحل الأزمة المستعصية والمستحكمة.
حكومة لبنان على رصيف التعطيل
وإذ تتبدى هذه الصورة المأساوية في الأجواء السياسية المهترئة، وانكفاء أطراف الأزمة جميعهم خلف متاريس الصراع العبثي في ما بينهم، فيما حكومة نجيب ميقاتي متروكة لمصيرها على رصيف التعطيل، والكلام حول إمكان عودة مجلس الوزراء إلى الانعقاد ليس جدياً، بل صار أقرب إلى المورفين الذي يجيد رئيس الحكومة استخدامه، فيما المؤشرات الحكومية تؤكد أن هذا التعطيل يبدو أنه سيستمر من الآن وحتى الانتخابات النيابية، إلا إذا طرأ أمر ما، في لحظة ما، فرض عودة الحكومة إلى الانعقاد لاحتواء تداعيات ما قد يحصل.
بالمقابل وأمام جملة التحديات المحدقة لا يستحي فريق رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره صهر بالقول إلى أنّ تجميد العمل الحكومي يهدف إلى عرقلة عهد عون في عامه الأخير ومنعه من تحقيق أي إنجاز في الملفات المنتظرة، وفي ظل الاستعصاء على اجتراح حلّ سياسي لأزمة الثنائي الشيعي مع القاضي طارق البيطار عبر سحب منه ملف محاكمة الوزراء والنواب المتهمين وإحالته للمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
وبعد تراجع عون عن الصيغة القانونية والدستورية المتفق عليها عقب احتفال الاستقلال، لمعالجة آلية تحقيقات القاضي طارق البيطار في انفجار المرفأ، توسعت دائرة المعركة بين عون وبري، فلم تعد مقتصرة على قانون الانتخاب، ولا على موعد إجراء الانتخابات النيابية في آذار أو أيار. وعون يتخذ قراره بالتوقف عن توقيع المراسيم والموافقات الاستثنائية. ويقرر أيضاً رفض عقد دورة استثنائية للمجلس النيابي.
مفاجأة حزب الله
وتقول مصادر مطلعة إن مسألة أخرى تبدو طاغية وهي في إعادة التفكير بعقد تسوية جديدة قد يشجعها حزب الله، وهي أن تدفع المجلس النيابي الحالي على انتخاب رئيس جمهورية، لكن مقومات هذه الفكرة غير ناضجة حتى الآن. أما منطلقها الأساسي فهو اقتناع الجميع بضرورة تمديد ولاية المجلس النيابي، وتأجيل الانتخابات البرلمانية ليتمكن المجلس الحالي من انتخاب الرئيس.
وهذا الأمر لا يمكن حسمه لبنانياً بمعزل عن موافقة دولية وإقليمية. وهو يرتبط داخلياً بعلاقة عون وحزب الله، وبعد استعراض آفاق المرحلة المقبلة، ترى مصادر أن علاقة حزب الله بعون متوترة حالياً، على خلفية خوض الأخير معركة تأمين خليفته، فيما لا يبدو حزب الله قادراً على إعطاء أي موقف مسبق بشأن باسيل، طالما أن علاقته سيئة بالقوى السياسية كلها.
أوروبا والخليج يدخلان على الخط
إقليمياً أوروبا التي فوّضت باريس للمواجهة عنها في المنطقة ولبنان تعيش أزمة ما خلفته كورونا عليها من تداعيات اقتصادية واجتماعية وثقافية لذلك زحفت باريس للسعودية وقطر للإتيان بهما لبيروت من جديد تحت عنوان "استعادة التوازن العربي في المواجهة مع إيران" وهي أيضاً (أي فرنسا ومعها الأوروبيون) يدفعون ثمناً كبيراً للمعركة النفطية الحاصلة على أكثر من اتجاه.
فيما الإدارة الروسية تقرأ بتمعّن التشابك الحاصل على مستوى السياسة العالمية وخاصة النزاع الخفي بين واشنطن ودول أوروبية، لذلك هي تسعى لتوسيع رقعة نفوذها في القارة العجوز عبر الحشود على الحدود مع أوكرانيا التي تستميل على جبل الولايات المتحدة فيما برلين تعيش مرحلة جديدة وغير عادية مع رحيل أنجيلا ميركل وتولي أولاف شولتس الاشتراكي الديمقراطي للمنصب الأول في ألمانيا والجميع يترقب ما قد يغيره الرجل في سياسة بلاده.
والفرنسيين استطاعوا فتح ثغرة في جدار الأزمة الخليجية مع لبنان عبر التواصل الذي استطاع ماكرون إجراءه بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس ميقاتي والأخير بدأ سلسلة إجراءات "ترضي الرياض" وليس آخرها ترحيل المعارضين البحرينيين وإلغاء مؤتمر كانت بيروت ستستضيفه للمعارضين في المنامة.
وعليه يمكن استقراء ما حققه بن سلمان بتحصيله مواقف دول الخليج التي زارها ومن ثم استضافها في الرياض في مؤتمر مجلس التعاون الخليجي، وقوله إن وضع السعودية السياسي في المنطقة لا يزال قوياً وحاضراً، وهذه الرسالة أراد إيصالها لواشنطن قبل طهران وهي أن الموقف الخليجي موحد خلف بلاده، ودول الخليج كلها داعمة له في أي مسار سياسي إقليمي أو دولي، ولا يمكن لأي طرف أن يتواصل مع جهة خليجية على نحو يتعارض مع المصلحة السعودية.
وتزامن ذلك مع زيارات أجراها الوزير السابق ملحم رياشي موفداً من حزب القوات اللبنانية والوزير السابق وائل أبو فاعور موفداً من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط إلى الرياض، وهناك من يوحي بأن هنالك إمكانية فعلاً لاستعادة التوازن السياسي مع حزب الله في الساحة اللبنانية، وهناك معلومات تقول إن السعودية تبدي استعدادها لإعادة تفعيل حضورها السياسي في لبنان، من خلال تجديد علاقتها بحلفائها التقليديين.
فيما زيارات ستشهدها السعودية لقيادات سياسية لبنانية بهدف ما يسمى "رصّ الصفوف" تحضيراً للانتخابات النيابية المقبلة، ويبرز هنا سؤال أساسي حول مصير الساحة السنية في ظل الفيتو السعودي على الحريري. لكن هذه العودة السعودية وبعيداً عن جواب التمثيل السني يقال وفق للمعلومات أتت بناءً على نصائح مصرية وقطرية وفرنسية أكدت للسعوديين على قاعدة أساسية بأن ترك لبنان والانسحاب منه وإدارة الظهر له، خدمة لحزب الله وطهران قبل أي أحد.
لكن وبالمقابل لا يمكن إغفال العامل الإسرائيلي عن الأحداث اللبنانية، ثمة من يقول إن انفجار مخزن السلاح الخاص بحركة حماس في مخيم البرج الشمالي قد يكون للموساد يد طولى في تفجيره، وخاصة أن الانفجار تزامن مع تقارير إسرائيلية عن بناء حماس قاعدة عسكرية لها في مخيمات لبنان، ما يعني أن لبنان قد يعود ملعباً ومسرحاً لصراع مع حزب الله وحلفائه كحماس والجهاد الإسلامي بعدما أوقفت واشنطن اندفاعة تل أبيب في مهاجمة إيران، وعليه يمكن الحديث أن جهات إقليمية باتت قادرة على تفجير الواقع اللبناني، وهذا السيناريو بدا خلال مواجهات فتح وحماس في تشييع القيادي الأمني لحماس حمزة شاهين وأدت لمقتل شبان من حماس.
مجزرة البرج الشمالي
فيما تدور في الأفق أحاديث عن أن ماجد فرج أراد من مجزرة البرج الشمالي إبراز قوته في المخيمات في ظل سعيه لخلافة عباس وإزاحة دحلان وضرب حماس في معقل حزب الله، فيما تعتبر هذه الأزمة رسالة إلى الحزب إياه من خلال فتح اشتباك مع حماس التي يقودها فصيل الأمن بزعامة السنوار، وهو ما يدفع للخشية من احتمال تكرار المشهد الساخن في مخيمات فلسطينية أخرى وتحديداً عين الحلوة مثلث الصراع الفتحاوي.
في النهاية وصل خالد مشعل إلى بيروت وسيلتقي بعضاً من المسؤولين اللبنانيين في السياسة والأمن، فيما يتهرب آخرون من لقائه خوفاً من إزعاج السعودية والإمارات، وهو كما يقول المثل المصري "جاي يلم ليلة السنوار"، وعليه فالأزمة متواصلة حتى انتهاء ليالي الأنس في فيينا..
حمى الله لبنان!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.