لا أؤمن بالمصادفات كظاهرة عشوائية تخضع لنظرية الاحتمالات، فهي من وجهة نظري يد الأقدار الخفية لإمضاء إرادة إلهية ما، وبالتالي، اعتدت حين أتعرض لمصادفة، خصوصاً حين تكون المفارقة شديدة الغرابة، أن أتأمل الرسائل المتضمنة والحكمة الكامنة فيها.
ومن هذا القبيل، قادتني إحدى المصادفات في الأيام الماضية إلى كتيب صغير مترجم بعنوان (لغز مايو 68.. لنا الحق في التمرد) لفيلسوف فرنسي يدعى آلان باديو، والمصادفة تكمن في أمرين: أولهما أن هذا الكتيب أعد بمناسبة الذكرى الخمسين لثورة الطلاب في فرنسا في صيف 68، أي نُشر في عام 2018، وقد صادفته والحديث عن ذكرى الثورات العربية يتجدد بمناسبة اقتراب الذكرى الحادية عشرة لها، وثانياً، لأنني، ولأسباب قد يكون بعضها غير وجيه، كنت أرى أن لحظة 2011 في التجربة العربية قريبة في روحها من لحظة 1968 في التجربة الغربية، حيث الفعل الاحتجاجي أكثر خروجاً على الأطر المألوفة، وأكثر تمرداً على المؤسسات التقليدية، وحيث الأجندة الاحتجاجية أكثر تنوعاً، أو قل أقل تناغماً، وأكثر انتماءً للنسق المابعد حداثي من الخبرات الاحتجاجية السابقة.
هذه المفارقة، جعلتني أرى هذا الكتيب وكأنه رسالة شخصية، وكأنني أتلمس تجربة جيلي وتقلباته – ولو جزئياً – بين سطوره، وعلى الرغم من أن عدم معرفتي ببعض الوقائع أو الأشخاص أو الإشارات التاريخية التي تضمنها الكتيب لم تمكني من إدراك كل ما أراد الكاتب قوله، لكن، على المستوى الشعوري، أحسست بكل ما أراد أن يوصله للقراء، أو هكذا أظن.
الرسالة الأولى التي تضمنها الكتاب هي أن لنا الحق في أن نفخر باللحظات الثورية، مع كامل وعينا بنقائصها، وتناقضاتها، وحماقتها، ورعونتها، وبراءتها، وطهرها، وخيلائها الفارغة، وأحلامها المجهضة. لنا الحق في أن نحملها في ذاكرتنا، وألا ندعها تتوه في خضم الأحداث، أو تنزلق في غياهب النسيان، وأن نكرر الحديث عنها كلما أتيحت لنا الفرصة، لأن حدثاً عبقرياً كهذا لا يجود الزمان بمثله كثيراً، وأن معايشتنا له، بل وتعميدنا على يديه، جعلنا لبرهة من الزمان أفضل نسخة منا، وأن تجربتنا في مجتمع الميادين الفاضل، ولو لأيام معدودة، هي من الهبات الإلهية التي لا تتاح لأي جيل. صحيح، هذه اللحظة الثورية قد تجاوزتها الأحداث، وأننا يجب أن نتجاوزها إذا أردنا ألا ننفصل عن واقعنا وتحدياته، وألا نتخلف عن القيام بالواجبات المطلوبة منا حياله، لكن التجاوز غير التناسي والتجاهل، وليس من متطلباته التنكر لخبرة استثنائية تركت فيمن عاصروها بصمة لا تمحى.
الرسالة الثانية، وهي الأهم، هي أننا لا يجب أن نخضع لضغط الهزيمة ووطأتها، سواء بالتبرؤ من الثورة وشعاراتها وأهدافها، أو الانكفاء على الحياة الخاصة، والمصلحة الشخصية الضيقة، باعتبار أن ذلك هو الحكمة المستقاة من تجربة الثورة المهزومة. يقول آلان باديو:
"يجب محاولة الحفاظ على كلمات لغتنا، التي لم نعد نتجاسر على نطقها… يقال لنا "العالم تغير، ومن ثم لم يعد يمكنكم نطقها"… لكن بلى نستطيع، بل ويجب علينا… إن التخاذل في اللغة وقبول الإرهاب الذي يمنعنا بصورة حميمة من نطق الكلمات التي ليست ضمن اللياقة السائدة هو اضطهاد لا يحتمل".
ألسنا غير قادرين حالياً تحت وطأة الذوق المأزوم السائد الذي يعلي من قيمة السلطوية ويؤكد على فضائلها، ويستهين بل ويسخر من قيم الديمقراطية والحريات السياسية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين أن نردد كلمات مثل الثورة والشعب يريد وعيش، حرية، عدالة اجتماعية "دون أن نعد في أعيننا ذاتها ذوي ذوق سقيم؟ ألم يعد راسخاً بداخلنا أننا لا نستحق ما هو أفضل، وأنه من السذاجة حالياً أن نفكر فيه أو نتناقش حوله؟ ألم نعد نخجل من أن ننحاز للأفكار الكبيرة فضلاً عن أن نسعى لها؟
ثم يجمل باديو نصيحته بعد نصف قرن من ذكرى الثورة المهزومة قائلاً:
"لنقل الأمر في كلمة واحدة: لابد لنا من شجاعة امتلاك فكرة، فكرة عظيمة، فلنقتنع بأن امتلاك فكرة عظيمة ليس مثيراً للسخرية ولا إجرامياً… يجب أن نقول إن المرء لا يحيى دون فكرة… اليوم يعتقد أناس أكثر مما ينبغي أن عيش المرء من أجل نفسه، من أجل مصالحه هو أمر لا محيد عنه، فلنمتلك شجاعة الانفصال عن أولئك الناس… سنرفض الأمر الملزم: القدرة على الاستهلاك تكفيك. عش دون فكرة".
بالتأكيد لا يمكن بسهولة القفز على إخفاقات تجربة الثورات العربية وتجاوز خيباتها، خصوصاً أنها مازالت ماثلة أمامنا، وأن تداعياتها المريرة مازالت ثقيلة الوطأة على واقعنا، وربما سنحتاج عقداً آخر أو حتى عقدين لنلملم جراحاتنا، ولنتمكن من النظر بتوازن لهذه اللحظات التاريخية التي عشناها من 11 سنة، لكن ما يقترحه ألن باديو – أو ما أظن أنه يقترحه – في هذا الشأن، هو أن علينا ألا نتنكر لما حلمنا به يوماً، وألا نخجل من أن نعاود اعتناق الأفكار الكبيرة، وألا نرضخ للرقابة المفروضة على أفكارنا وعلى لغتنا ومصطلحاتنا، وأن نستنقذ وعينا وذاكرتنا من محاولات المحو أو التشويه، وهو – في أوقات الهزيمة – نضالٌ لو تعلمون عظيم!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.