شهدت الفترة من بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي وحتى كتابة تلك السطور، تراجعاً حاداً لليرة التركية، حتى كادت تلامس الـ١٥ليرة مقابل الدولار الأمريكي، وهو معدل تراجع غير مسبوق، مما دفع البنك المركزي التركي للتدخل أكثر من مرة بضخ دولارات بالسوق لتهدئة معدل التراجع، إلا أن قيمة الليرة ما زالت منخفضة بنسبة 45% عن مستواها ببداية العام الحالي.
ولأن تركيا تعاني من عجز مزمن بالميزان التجاري السلعي، حيث تزيد قيمة الواردات عن الصادرات منذ عقود، خاصة مع تدني نسب الاكتفاء بها من موارد الطاقة سواء الغاز الطبيعي والنفط والفحم، وهي السلع التي زادت أسعارها خلال العام الحالي إلى جانب القمح وزيوت الطعام والسكر والمعادن والأسمدة وغيرها.
فقد انتقل أثر الأسعار المرتفعة المستوردة إلى السوق المحلية، بالإضافة إلى دفع عدد أكبر من الليرات عند الشراء بسبب انخفاض سعر الصرف، مما زاد من معدل التضخم ليتخطى نسبة الـ20% في نوفمبر الماضي، مع ارتفاع أسعار الغذاء والمواصلات والسكن، لتنخفض القدرة الشرائية لدى المستهلكين، الأمر الذي دفع جانباً منهم للتظاهر في أنقرة وإسطنبول بسبب الغلاء، وطلباً لرفع الحد الأدنى للأجور.
وعادة ما يتأثر سعر صرف العملة لأي بلد مع تراجع إيراداته من النقد الأجنبي، مثلما حدث في تركيا بالعام الماضي عندما تراجع سعر صرف الليرة بنسبة 24%، نتيجة انخفاض إيرادات الصادرات السلعية والخدمية خاصة السياحة، وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر الداخل، وكلها بسبب تداعيات فيروس كورونا.
تحسن اقتصادي وتراجع للعملة
لكن المشهد خلال العام الحالي بكل تلك العوامل الاقتصادية السابقة كان مختلفاً، فخلال الشهور العشرة الأولى من العام الحالي زادت قيمة الصادرات بنسبة 34% عن نفس الفترة من العام الماضي، بل وأكثر من صادرات العام الماضي كاملاً، كما زاد صافي إيرادات السياحة بنسبة 111% عن نفس الشهور من العام الماضي، ليسجل ميزان السلع والخدمات فائضاً بلغ 772 مليون دولار مقابل عجز به بقيمة 26.3 مليار دولار بالعام الماضي، وهذا الفائض بميزان السلع والخدمات هو أمر لم يحدث خلال العشرين عاماً الماضية سوى مرة واحدة عام 2019 فقط، الأمر الذي ساهم في انخفاض العجز بميزان المعاملات الجارية إلى 8.4 مليار دولار فقط، مقابل عجز 35.6 مليار دولار بالعام الماضي.
كما ذكرت بيانات البنك المركزي التركي دخول استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 6.4 مليار دولار، خلال الشهور العشرة الأولى من العام الحالي مقابل 4.5 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام الماضي.
وها هو معدل الناتج يسجل نسبة نمو 7.4% خلال الربع الثالث من العام الحالي، كما توقع صندوق النقد الدولي في تقريره الصادر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بلوغ نسبة نموه 9 % خلال العام الحالي مقابل نمو 1.8 % بالعام الماضي.
ورغم كل تلك الإيجابيات فقد شهدت الليرة التركية تراجعاً حاداً خلال الأسابيع الماضية، والذي يرجعه الكثيرون إلى إعلان الرئيس أردوغان منذ فترة موقفه الرافض لارتفاع أسعار الفائدة، واستبعاده ثلاثة محافظين للبنك المركزي وبعض النواب بسبب ذلك، واسترشاده بنسب الفائدة المنخفضة بالدول الغربية والتي وصلت إلى صفر بالمئة بدول اليورو، بل وبمعدل سالب في اليابان وسويسرا.
مما دفع المسؤولين الجدد بالبنك المركزي لخفض الفائدة من 19% وهو المعدل التي كانت عليه في مارس/آذار الماضي، حتى وصلت إلى 15% في الشهر الماضي عبر ثلاثة تخفيضات خلال ثمانية شهور.
الأضرار الاقتصادية لارتفاع الفائدة
وهو مسلك يراه الكثيرون مغايراً لما جرت عليه الأعراف داخل البنوك المركزية في دول العالم، والتي تقوم برفع سعر الفائدة كوسيلة لمجابهة معدلات التضخم المرتفعة، مثلما فعلت مصر والأرجنتين وروسيا وغيرها، حيث تتسبب تلك الفائدة المرتفعة في دفع الكثيرين لوضع جانب من أموالهم بالبنوك للاستفادة من تلك الفائدة المرتفعة، الأمر الذي يتسبب في قلة السيولة في أيدي الجمهور، مما يقلل الطلب على السلع والخدمات، وهو ما يؤدي لتراجع معدلات الأسعار، أي تراجع معدلات التضخم.
لكن الرئيس أردوغان وبعض الخبراء يرون أن رفع سعر الفائدة له أضراره على الاقتصاد، فهو يدفع الجمهور لوضع أمواله بالبنوك، وبالتالي لا يتجه لاستثمارها في شكل مشروعات سواء بنفسه أو بالاكتتاب العام في أسهم الشركات.
ونفس الأثر للمستثمرين الأجانب الذين يفضلون شراء أدوات الدين الحكومية ذات الفائدة العالية، وهي أموال ساخنة تخرج سريعاً محملة بالعائد المرتفع، ولا يتجهون للاستثمار في شكل مشروعات تضيف إنتاجاً أو تتيح فرصاً لتشغيل العاطلين، لأن عائدها سيقل صافيه نتيجة معدل التضخم المرتفع.
كما أن الفائدة العالية تدفع الشركات المحلية المنتجة للإحجام عن الاقتراض من البنوك، بسبب ارتفاع تكلفة فائدة القروض التي تخطت 24 % في سبتمبر/أيلول 2018، والتي تتسبب في ارتفاع تكلفة المنتجات، مما يقلل من تنافسيتها بالسوق المحلية أو بالأسواق الخارجية، خاصة أن المنافسين بالتصدير يقترضون داخل بلادهم بفائدة منخفضة.
كما أن الفائدة المرتفعة تتسبب في كبر قيمة مصروفات فوائد الدين الحكومي بالموازنة الحكومية، وهو ما يأتي على حساب مخصصات الاستثمار الحكومي وأجور العاملين بالحكومة ودعم الشرائح الفقيرة، في ظل موازنة تركية تعاني من عجز مزمن، وهو العجز الذي توقع صندوق النقد الدولي استمراره بنسبة تزيد عن 6% حتى عام 2026.
ثمار مسلك أردوغان تحتاج لوقت
وهكذا فإن أردوغان يستهدف من الفائدة المنخفضة تسهيل مهمة الشركات في الاقتراض من البنوك، وخفض تكلفة الإنتاج والتي سينتقل أثرها إلى المستهلكين، وعندما يرى المستثمر الأجنبي نشاطاً للشركات المحلية، فإنه سيُقبل على الاستثمار المباشر في شكل مشروعات، في بلد يزيد عدد سكانه عن 82 مليون نسمة، وهكذا يزيد الإنتاج؛ مما يؤدي لزيادة الصادرات وزيادة فرص تشغيل العاطلين وزيادة النمو.
لكن الحل الذي يتجه إليه أردوغان يحتاج إلى بعض الوقت، في إنشاء مصنع جديد يحتاج لما بين عامين إلى ثلاثة، بينما شراء الأجانب لأدوات الدين الحكومي التركي والذي يزيد من حصيلة النقد الأجنبي يتم خلال أيام، لكنها أموال ساخنة تخرج سريعاً محملة بالأرباح العالية والتي تكون بنفس عملة بلادها، مما يضغط على الموارد الدولارية الموجودة.
وهكذا يركز أنصار الرئيس أردوغان على فوائد خفض العملة للتهوين من أثر المشكلة الحالية، من أنها تجعل أسعار السلع والخدمات التركية أرخص بالنسبة الأجانب، فتزيد قيمة الصادرات التركية وإيرادات السياحة وهو ما حدث بالفعل، كما يجعل انخفاض العملة وأسعار الأصول التركية أرخص بالنسبة للأجانب فيقبلون على شراء العقارات والمصانع.
لكن تلك الثمار الإيجابية لخفض العملة بالنسبة للصادرات التركية ليست شاملة لكل السلع التركية، فكثير من المنتجات التركية بها مكون أجنبي مرتفع، سواء من مواد خام مستوردة أو مواد وسيطة مستوردة وطاقة مستوردة وماكينات مستوردة.
وبالتالي فإنه مع شرائهم لتلك المكونات بقيمة أعلى نتيجة انخفاض سعر الليرة، سيجعل تكلفة منتجاتهم عالية مما يؤثر على تنافسيتها، بحيث تكون ثمار انخفاض الليرة أكبر في حالة المنتجات التركية التي ليس بها مكون أجنبي، أو بها مكون أجنبي أقل، ونفس الأمر بالنسبة للمنشآت السياحية التي تستورد جانباً من مستلزماتها.
كما أن الفائدة المنخفضة ستجعل تكلفة قروض التجزئة بالبنوك أقل تكلفة، مما يدفع المستهلكين للمزيد من الاقتراض لشراء السلع المعمرة والسيارات ونحو ذلك، مما يزيد الطلب فتبدأ الدورة الاقتصادية من خلال زيادة مبيعات الشركات، فتتجه الشركات للتوسع حتى تزيد من حجم الإنتاج، واستقطاب مزيد من العمالة اللازمة لتلك التوسعات بالمشروعات الإنتاجية والخدمية.
السخط على الحكومة والأيادي الخفية
وعلى الجانب الآخر، تبدو أكبر سلبيات انخفاض سعر صرف الليرة في ارتفاع أسعار السلع المستوردة، في بلد يعاني من عجز تجاري مزمن، مما يقلل القدرة الشرائية لعموم المستهلكين، فتزيد معدلات السخط على الحكومة، مما يدفع إلى التخلي عن إعطاء أصواتهم الانتخابية لها، بالانتخابات القادمة الرئاسية والبرلمانية التي بقي على موعدها حوالي عام ونصف.
ومن هنا تبدو أهداف الأيدي الخفية التي تضارب في العملات الأجنبية، لإظهار حكومة العدالة والتنمية والرئيس أردوغان بمظهر العاجز عن التصدي لمشاكل الحياة اليومية أمام الجمهور، عقاباً لها على تدخلها الخارجي في أذربيجان وليبيا وسوريا، ومحاولتها جمع شمل الدول الناطقة بالتركية، وموقفها المختلف مع اليونان وقبرص وبعض الدول الأوربية، ومساندتها لحركات الربيع العربي.
فقطاع كبير من الأتراك لا يهمهم أن تكون الفائدة المرتفعة ربا محرماً شرعاً، وقطاع آخر تهمه أكثر فائدة ودائعه المصرفية العالية، وكثيرون نسوا أن التضخم كانت نسبته أكثر من 25% في أكتوبر/تشرين الأول 2018 ثم انخفض لأقل من 12% أواخر العام التالي، وبالتالي لا يصدقون وعود الحكومة بخفض نسبة التضخم.
وكثيرون ليس لديهم ترف الانتظار حتى يؤتي موقف أردوغان من الفائدة ثماره بالنسبة للإنتاج والاستثمار والنمو، بسبب الغلاء المنتشر بالأسواق، خاصة أن زيادة الحد الأدنى للأجور يمكن أن يساهم في زيادة النقود بالأسواق، مما يزيد الطلب وهو ما يؤدي لاستمرار ارتفاع التضخم بعض الوقت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.