أزمة مأساوية وتراجيديا محزنة، لم يعد بإمكان أحد قولبتها أو قراءتها واختصارها في تقدير موقف بحثي أو تقرير إعلامي أو استقراء فكري أو تنظير سياسي محدد، ولم يعد بالإمكان طرح حلول مرحلية أو استراتيجية حاسمة لها، فلم تُجدِ اللقاءات المكوكية بين أطراف الأزمة السورية وحلفائهم على مدار السنوات العشر الماضية نفعاً، إذ غدت سوريا مثالاً لحالةٍ مستعصية عن الحل، وكأنها سؤال لا إجابة له، ومأساة إنسانية يرويها الجميع؛ تتناقلها شبكات الإعلام ومراكز الدراسات وكتب السياسة والأدب، وتلعب في ميدانها الأيادي الأجنبية والمنظمات الدولية وأجهزة الاستخبارات يمنةً ويسرةً، وتُخطُّ لأجلها التواقيع وتُتخذ القرارات وتُبنى التفاهمات على الطاولات المستديرة والمستطيلة في مراكز صنع القرار العالمي، ولكن تنتهي تلك القرارات والتفاهمات (الورقية) الخاصة بها في أدراج مقفلة في أرشيفات وأقبية الأمم المتحدة والعواصم ذات الشأن والمطابخ السياسية الكبرى، وهذا كله أفرز أزمة شعب انتهكت حقوقه وقُتل أبناؤه وهُجر بأكثريته، فاعتبرت أزمته الأفظع والأكثر مأساوية بعد سنوات الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945م).
الميدان بين التطبيع مع الأسد وتعويم السواد (القاعدة) وإسقاط المرجعيات الثورية
الهرولة العربية نحو التطبيع مع نظام بشار الأسد بأشكاله السياسية والاقتصادية والأمنية والرياضية، والتودد والتقارب مع الإيرانيين الذين يحتلون أربع عواصم عربية ويَقتلون أبناءها عبر ميليشيات إجرامية طائفية، يرافق ذلك تعويم إعلامي وسياسي (مخابراتي) ممنهج لمثالية حكومة الأمر الواقع (حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام التي يتولاها أبو محمد الجولاني) في المناطق السورية الشمالية المحررة، والإشاعة بأن تلك الحكومة تعتبر النموذج الأفضل لتقود أحرار سوريا وأبناءها في مواجهة استفراد نظام بشار الأسد فيما سمّاه الشرعية الشعبية المتجانسة على أسس ديموغرافية وثقافية وجغرافية يعمل عليها بدعم حلفائه الروس والإيرانيين (سوريا المفيدة).
ويُلاحظ كيف بدأت الأصوات تتعالى من بعض الدول المحسوبة على دعم الثورة قبل غيرها؛ بأن الجولاني وهيئته وحكومة الإنقاذ شكلوا نموذجاً للانضباط في الإدارة المحلية بعد تليين الجولاني لموقفه، وميله للتفاوض والمسالمة مع القوى الدولية الفاعلة في سوريا، واستبداله الخطاب القاعدي بخطاب أكثر ليبرالية وانفتاحاً. وتأثير تلك الدعاية أنها سهلت إجراء مقاربة أمنية وعسكرية مع بعض الفصائل المحسوبة على الجيش الوطني للتفاهم معه وتنظيم إدارة المناطق الشمالية الخارجة عن سيطرة الأسد، واستعدّت تلك الفصائل للحوار الذي يحقق التعاون، ناسين ما ارتكبه ذلك التنظيم من فظائع وجرائم في تقويض قوة الجيش الحر، واعتقال الأحرار، والتنكيل بالنشطاء، وتكميم الأفواه، وملاحقة أصحاب المهن والمصالح والأعمال، ومصادرة الأملاك، وفرض الغرامات الباهظة عليهم، فهو لم يعطِ سوى صورة سيئة عن المناطق المحررة بأنها مناطق للترهيب والإذعان، وتزامناً مع هذا الواقع تتحرك الآلة الإعلامية والأقلام الرخيصة التابعة لدول الثورة المضادة (عربية وغربية)، وتعمل على إسقاط المرجعيات الثورية، بمشاركة غير مقصودة وعاطفية من بعض أبناء سوريا في الداخل والخارج، وهذا الإسقاط المرجعي هو ما هزَّ هيبة العمل المؤسسي والتمثيل السياسي (الحكومة السورية المؤقتة)، والديني (المجلس الإسلامي السوري وما يمثله بالداخل من مصلحين اجتماعيين وشرعيين)، والإعلامي (اختلاط الأوراق وعدم انضباط البوصلة الإعلامية وغياب الميثاق الوطني للمراكز الإعلامية المحسوبة على الثورة)، وذلك التقزيم والتشويه والعمل المتواصل لإسقاط المرجعيات والرموز أضعف الثورة ولم يَعد السوريون يرون ممثلاً لهم أو كاريزما حقيقية تقودهم وتعبر عن آمالهم وتطلعاتهم، وهو ما فتح الباب لنظام الأسد وحكومة الجولاني لترتيب العنف واحتكاره، وسد الفراغ في جغرافيا واسعة في مجالات التعليم والإدارة الخدمية والأجهزة الأمنية والتنظيم العسكري والتنمية الاقتصادية والتمثيل الروحي للشعب السوري بكل تياراته وانتماءاته وتوجهاته.
هل هناك تطبيع عربي مع الأسد؟
حاز النظام السوري خبرة واسعة وعراقة في التعامل الدبلوماسي الخارجي عبر ممثليه والدول الحليفة له (روسيا – إيران)، وشدَّ عضده الطموح الإيراني في احتلال سوريا ضمن نفوذها، فالتوجه نحو امتلاك أسلحة نووية شغل الإدارات الديموقراطية الأمريكية، فجعلت همَّها تخفيض الإنتاج من اليورانيوم الإيراني مقابل تخفيف الضغط الاقتصادي على إيران وحلفائها، وعلى رأسهم نظام الأسد، وهو ما أفرغ قانون قيصر في عهد بايدن من أي مفعول أو أثر، بل على العكس؛ مال الأمريكان نحو فتح المجال للتطبيع العربي، فقد سهل هذه العملية وجود حزام من الأنظمة الاستبدادية العربية التي تحيط بسوريا؛ من مصر وحتى العراق، وحرك بعضها الهاجس الأمني والخوف من التمدد الإيراني والتماهي مع الموقف العربي الرسمي تجاه ربيع الشعوب الذي بدأ في عام 2011، وكان الأردن المثال الأبرز لهذه الحالة، فالدعوات الإماراتية والأردنية والمصرية والجزائرية والعراقية لإعادة الأسد إلى مقعد جامعة الدول العربية، وعودته للإنتربول الدولي لتمثيل مقعد سوريا دون أي رفض من دول غربية أو غيرها، ومحاولاته الاستئثار بالمقعد الأممي، ولقاءاته المتواصلة مع دول عربية، وفتح مجالات للاستثمار من قِبَل رجال أعمال تابعين له في دول كثيرة، كله يؤكد تلك التسهيلات والتواطؤ العربي والتطبيع مع نظام الأسد في ظل غياب تمثيل واحد للمناطق السورية المحررة.
الأزمة تشتعل كلما تقدم الزمن
المناطق السورية تعيش اليوم حالة عصيبة، ليس بسبب الصراع بين معارضة (أحرار) ونظام قاتل مستبد، وإنما زاد النار اشتعالاً والجغرافيا تمزقاً والمجتمع انهياراً رغبات ومطامح وتآمرات دولية وإقليمية وعربية، وهو ما أدى إلى مزيد من الانشطار الجغرافي والإثني والطائفي والتمايز الطبقي، كان النظام الأسدي وأجهزته يعملون عليه ليل نهار قبل انطلاق ثورة الشعب، وأجج الوضع الكارثي المشروع الكردي (PYD) بالاستقلال الذاتي في الجزيرة الفراتية، ومدّ النفوذ ليشمل ما سمّوه (إقليم روج آفا) من حدود العراق الشمالية الغربية حتى البحر المتوسط، بغطاء أمريكي وأوروبي مكشوف، وعزز تلك الفوضى الميدانية نزعات إيرانية بنشر ثقافة التشيع وإحداث عمليات التحول الديموغرافي في المجتمع السوري، وتغيير التركيبة الإدارية للمحافظات والمدن من خلال شراء البيوت والأراضي وتوقيع العقود الرسمية للاستثمار والإعمار بمناطق تدّعي إيران أن لآل البيت إرثاً فيها، وإعلان مقامات ومزارات جديدة لهم في كثير من مدن وبلدات سورية وصلت إليها جحافل الميليشيا الإيرانية، ولأجل ذلك قدموا إغراءات مالية لأصحاب البيوت والأراضي، وتحالفوا مع عدد من زعماء القبائل العربية، واشتروا آراء وولاءات العديد من المثقفين والإعلاميين والسياسيين والعسكريين، وأرادت إيران أن يكون خروجها من سوريا أمراً مستحيلاً إذا حدث أي انتقال سياسي في السلطة، وظل الروس كفلاء لهذا التمدد الشيعي الذي خدم التحالف الاستراتيجي بينهم وبين إيران في إقليم عربي رخو ومستباح من أنظمة استبدادية، وقوى إقليمية وعالمية.
تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على المزاج الشعبي الثوري
إن وسائل التواصل الاجتماعي تركت أثرها السلبي في غالب الأحيان على الفهم السياسي عند أبناء سوريا في داخلها وفي المهاجر، وتلك المنصات والحسابات الخاصة والإعلامية بدلاً من أن تكون لها صفة مواقع نضالية تحولت غالبيتها إلى منصات سجالية لا أسس لنقاشاتها ولا منطلقات، وإنما تبني رؤيتها على معلومات مغلوطة أو أمثلة لا صحة لها؛ فلا السوري الثائر المدافع عن الجغرافيا المتبقية -بما فيها من إصلاحات وإنجازات، وكذلك منغصات معيشية وتحديات أمنية- آمن وسالم على نفسه، ولا الصامت الحيادي الجالس في بيته يحقق مطالب الشعب ويسهم في نيل مكاسبه الثورية المشروعة.
هل انتصر الأسد وانتهت ثورة الشعب؟
لم أشأ في هذه التدوينة الصغيرة رسم لوحة مأساوية لشعب خرج ضد الظلم وطالب بالحرية، ولا الحديث عن مستقبل مجهول فحسب، بل ما أردته هو لفت الانتباه إلى ما يحدث في سياقات متصلة بين تطبيع عربي وغربي متعمد مع نظام الأسد، وتعويم للطارئين المتطرفين (السواد) على المناطق المحررة في الشمال السوري، وإسقاط للرموز من أبناء الثورة الذين امتلكوا الخبرة والقدرة على الحل والعقد والإصلاح في كل المجالات السياسية والدينية والأمنية والأكاديمية والعسكرية، وهذه الصورة تُوجب علينا التحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بجهد جماعي، فنحن أمام مصير قضية شعب يعاني بأكمله، وليست مجموعة عائلات منتشرة في هذا المخيم أو ذاك التجمع أو في دولة ما.
انتصر الأسد عندما فقدنا الثقة بأهمية قضيتنا ودورها القيمي والوجداني والحضاري، وانتصر الأسد عندما عاش السوريون يتكئون على الخارج، وينتظرون العون من أطراف خارجية لا همَّ لها إلا زعزعة الاستقرار والمحافظة على مصالحها العليا، وانتصر الأسد عندما خذلَنا العرب وأبناء الإنسانية في قضيتنا كقضية ثورية هدفها الحرية والعدالة الاجتماعية واستعادة الحقوق المغتصبة، ولكن الانتصار يعود والأسد يُهزم بتجديد الخطاب الثوري، وإعادة بناء الثقة بالذات، وترميم البيت الداخلي، وإعداد فرق العمل التي من شأنها أن تواكب المرحلة وتطوراتها، فالثورة السورية ليست حدثاً عادياً، إنها زلزال عالمي أحدث تغيرات في مفاهيم السياسة وفنون الحرب والعلاقات الدولية والاستقطابات وقواعد اللعبة بين اللاعبين الكبار، وصاغ نظاماً عالمياً مختلفاً، وأعاد بناء التحالفات على مستوى الإقليم والعالم.
نحن السوريين بحاجة لحراك جماهيري واسع يُؤثر في الساحة الدولية، ويُخرج لنا من داخل سوريا وخارجها النخبة الحقيقية والقيادة الواعية لخطورة المرحلة، والرافضة لأيّ إملاء أو قرار يتضارب مع مصالح الثورة وأهدافها، وتخاطب هذه القيادة المجتمع الدولي بلسان حال الملايين من السوريين القاطنين في المخيمات والمشردين في دول الجوار ودول اللجوء، وكثير من هؤلاء أصبحوا عرضة للتشهير وخطاب الكراهية، ووقعوا ضحية الاحتيال من عصابات لا قانونية تستغل مشاعر الناس وحاجاتهم في الهجرة والوصول لبر الأمان.
على المسؤولين أن ينتجوا قيادة سياسية وعسكرية لها رأس واحد، وواجبها أن تخاطب المجتمع الدولي بضرورة إخراج الآلاف من أبناء سوريا الأحرار من معتقلات آل الأسد، وتعمل ما بوسعها لبناء المجتمع وإنهاء الخلافات، والعمل على بناء أسس الإصلاح الاجتماعي والسياسي والدستوري، والتفاهم مع الأصدقاء والمتعاطفين من الحكومات والشعوب، والاهتمام بتفعيل دور الإعلام والتواصل مع الصحافة الدولية والمنظمات الحقوقية ليبقى صوت الأحرار عالياً، وليعرف الجميع أن نظام الأسد وعصاباته وحلفاءه هم أصل الإرهاب والدمار، والسبب الرئيسي في تدهور المنظومة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية السورية، وتطييف المجتمع، وغياب العقد الاجتماعي بتحويله سوريا لدولة متعددة الهويات ومتشعبة الانتماءات، وأهلها إلى مواطنين بلا وطن، ودستورها إلى وثيقة بلا قيمة ولا احترام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.