من الانتفاضة إلى حصاد “أوسلو” المر.. هكذا انهارت منظمة التحرير الفلسطينة وبزغ نجم غزة

عربي بوست
تم النشر: 2021/12/13 الساعة 10:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/12/13 الساعة 10:57 بتوقيت غرينتش
عربي بوست

انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987)، بقادة وفصائل جدد وبانتعاش لآمال التحرير، حتى إن قادة الصهاينة سئموا من يوميات هذه الانتفاضة المستمرة، فاشتهرت مقولة أحدهم: "أتمنى أن أصحو يوماً وأرى غزّةَ وقد ابتلعها البحر"، فكانت السياسة الصهيونية لتهشيم عظام الأطفال والشباب الفلسطينيين المنتفضين، قصد ترهيب كل من يحمل حجراً يضرب به جيش العدو، وبالموازاة لذلك كان مسلسل أوسلو يهيأ في فنادق أوروبا، بدءاً بمؤتمر مدريد للسلام، ثم مروراً بالمفاوضات العلنية والسرية بالنرويج، وكان ذلك الاستثمار السيئ والبئيس لحصاد الانتفاضة، واستمرت الانتفاضة تقض مضاجع العدو الصهيوني يومياً وطيلة سبع سنوات، وكادت أن تثمر خيراً وتحريراً لولا التوظيف السيئ لحصادها، بعد انطلاق ما يسمى "مسلسل السلام".  

لقد كان المسار النضالي الفلسطيني بالخارج قد أعلن عن بداية تقهقره بتغيير -أصحابه الذين قبلوا بمسلسل السلام- للميثاق الوطني الفلسطيني رأساً على عقب، وبتقزيم استراتيجية التحرير الشاملة إلى استراتيجية تفاوضية مفروغة من أي عمق شعبي مقاوم على الساحة، فكانت النتيجة مقابل ذلك التغيير الرخيص، اتفاق أوسلو وملحقاته فماذا أتانا به هذا المسلسل التفاوضي وبماذا أقرت اتفاقيات أوسلو؟

لقد مهد هذا الاتفاق الاعتراف بحق الاحتلال الصهيوني في تواجده على أرض فلسطين وبالإقرار بنظامه ومؤسساته وبالتالي الدخول معه في مسلسل تفاوضي ليس باعتباره عدواً محتلاً ولكن باعتباره:

 توقيع اتفاقية أوسلو 1993، رويترز
توقيع اتفاقية أوسلو 1993، رويترز
  1. "طرفاً قابلاً للتعايش السلمي"، من خلال منطوق نصه في البند الأول منه الذي يقول: "إن حكومة دولة إسرائيل وفريق منظمة التحرير الفلسطينية (في الوفد الأردني الفلسطيني، إلى مؤتمر السلام في الشرق الأوسط) (الوفد الفلسطيني) ممثلاً للشعب الفلسطيني يتفقان على أن الوقت قد حان لإنهاء عقود من المواجهة والنزاع، والاعتراف بحقوقهما المشروعة والسياسية المتبادلة والسعي للعيش في ظل تعايش سلمي وبكرامة وأمن متبادلين، ولتحقيق تسوية سلمية عادلة ودائمة وشاملة ومصالحة تاريخية من خلال العملية السياسية المتفق عليها…". 
  2. و"شريكاً صالحاً" للتعاون في المجالات الأمنية والاقتصادية والتنموية، من خلال منطوق بنده الحادي عشر الذي يقول منطوقه في البند 11: "إدراكاً بالمنفعة المتبادلة للتعاون من أجل التشجيع بتطوير الضفة الغربية وقطاع غزة وإسرائيل، سيتم إنشاء لجنة تعاون اقتصادية إسرائيلية – فلسطينية، من أجل تطوير وتطبيق البرامج المحددة في البروتوكولات المرفقة (كملحق 3 وملحق 4) بأسلوب تعاوني، وذلك فور دخول إعلان المبادئ هذا حيز التنفيذ"،  وكذا ملحقه الثالث الذي يحدد مجالات التعاون في الماء والمال والطاقة والتجارة والصناعة والبيئة وتنمية الطاقات البشرية والنقل والاتصالات والإعلام.
  3. و"سلطة عليا" تندرج ضمنها سلطات "الحكم الذاتي" المحدودة التي منحها الاتفاق للفلسطينيين، من مثيل التعليم والثقافة والصحة والشؤون الاجتماعية والضرائب المباشرة والسياحة، كما هو منطوق الاتفاق في بنده السادس الخاص بنقل الصلاحيات والمسؤوليات التمهيدية.

ثم إن هذا الاتفاق أنجز اختراقاً عملياً، حيث يسمح للصهاينة بإحداث تلك القطيعة مع كيانهم من طرف العرب، وتدشين  مسلسل التطبيع معه اقتصادياً، على اعتبار أنه مهد الطريق لتعاون شرق أوسطي في المجالات الاقتصادية والتنموية وفك العزلة عن الكيان الصهيوني من خلال هذا التعاون الذي جره له، نجد ذلك مقراً به في ملحقاته، وخاصة الملحق الرابع الخاص ببروتوكول التعاون الإسرائيلي – الفلسطيني حول برامج التنمية في المنطقة، والذي نص على أن الجانبين يطلبان "من السبع الكبار السعي لإشراك دول أخرى مهتمة في هذا البرنامج، مثل أعضاء منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ودول ومؤسسات عربية إقليمية، وكذلك أعضاء من القطاع الخاص" هذا التعاون الذي أراده الصهاينة يهم  برنامج التنمية الاقتصادية للمنطقة ومنه:  "1- إقامة صندوق تنمية للشرق الأوسط كخطوة أولى وبنك تنمية للشرق الأوسط كخطوة ثانية. 2- تطوير خطة إسرائيلية – فلسطينية – أردنية مشتركة لتنسيق إستغلال منطقة البحر الميت. 3- قناة البحر المتوسط (غزة) – البحر الميت. 4- تحلية المياه إقليمياً ومشاريع تطوير أخرى للمياه. 5- خطة إقليمية للتنمية الزراعية، وتتضمن مسعى إقليمياً منسقاً للوقاية من التصحر. 6- ربط الشبكات الكهربائية فيما بينها. 7- التعاون الإقليمي من أجل نقل الغاز والنفط وموارد الطاقة الأخرى وتوزيعه واستغلاله صناعياً. 8- خطة تنمية  إقليمية للسياحة والنقل والاتصالات السلكية واللاسلكية. 9- التعاون الإقليمي في مجالات أخرى."، كما نصت على ذلك الفقرة ب من الملحق الرابع للاتفاق. ناهيك عن أن هذا الاتفاق مهد ضمنياً لبداية التعاون الأمني المشترك من خلال "إقامة لجنة تعاون وتنسيق فلسطينية – إسرائيلية مشتركة لأغراض الأمن المتبادل"، كما نص على ذلك الاتفاق في ملحقه الثاني. 

لسنا هنا بصدد تعداد الثغرات الكثيرة والكبيرة للاتفاق، ولا بصدد تقديم قراءة نقدية في بنوده ومضامينه، أو حتى الحديث عن مدى جدية الطرف الملتزم بتنفيذ ما عليه فيه، إنما كانت الخلفية في نظرنا واضحة وهي التأكيد على أن هذا الاتفاق وبنوده وبرتوكولاته، هو درس للأجيال وللأمة في أن إعلانات إسقاط  خيار المقاومة، والاعتراف بحق المحتل في الوجود، والمفاوضات سبيلاً استراتيجياً أوحد للتحرير، لم ولن تكون كلفتها هي التحرير بل المزيد من الانبطاح، هذا الانبطاح الذي بلغ قمته في أن هذا الاتفاق المهزلة ظل على ورق، ولم تنطلق مفاوضات الحل النهائي في بداية العام الثالث من مرحلة الخمس سنوات الانتقالية التي تبدأ حسب الاتفاق حال الانسحاب المفترض للصهاينة من قطاع غزة ومنطقة أريحا.

محاولات اغتيال الذاكرة

هذه هي التذكرة التي ينبغي أن يدندن حولها في كل حين، وما أبلغها من تذكرة، تذكرة ابتدأت بحكاية شعب اغتصبت أراضيه، وشرعن احتلالها عبر قرار التقسيم الأممي الجائر، وتوهجت أشكال مقاومة هذا المحتل عبر أيام وسنين اغتصابه للأرض، وكانت الغاية العادلة والمشروعة من هذه المقاومة إزالة هذا الاحتلال الظالم، تنظمت فصائل المقاومة والتفت حول هذا الهدف، ورفضت الخنوع والخضوع للأمر الواقع الذي حاول المجتمع الدولي الظالم أن يفرضه بالقوة وبالتحايل وراء دعاوى نبذ العنف والإرهاب والسلام العادل والشامل وضرورة التعايش السلمي، وكان من نتائج ذلك أن حاول بعض المخترقين والمستسلمين لهذا الأمر الواقع من داخل الأمة ومن داخل الفلسطينيين، أن يؤسسوا لمفاهيم انبطاحية ضداً على حقيقة الاحتلال وحقيقة التاريخ والذاكرة، فساروا على نهج المنتفعين أياماً ودراهم ودولارات وسلطات محدودات معدودات، وعوض أن تستمر بنادقهم وخططهم وأقلامهم موجهة ضد العدو مقاومة له، حولوا وجهتها نحو شرفاء المقاومة فكان التنكيل والاعتقال والمحاصرة والتآمر ضدهم وضد التطلعات التحريرية للشعب الفلسطيني المحتل، فكان الانقسام الفلسطيني انقساماً بين صف لا زال قابضاً على جمر استراتيجية التحرير الشاملة مقاومة ومفاوضة وسياسة ثقافة، وصف قزمها إلى استراتيجية تفاوضية متسلسلة بدون نهاية وبدون نتائج وبدون عودة اللاجئين وبدون قدس وبدون دولة وبدون تحرير.

هكذا إذن تستمر المقاومة، ويتوازى معها خط الانبطاح، قدر هذه الأمة والشعب الفلسطيني، حتى يتبين له وللأمة ولجميع شرفاء وأحرار العالم الخط المقاوم من الخط المستسلم من فجر التحرير، تستمر انتصارات المقاومة على ميدان التدافع وفوق أرض المعركة، وما الصمود البطولي للمقاومة في غزة ببعيد عنا زمنياً، وما محاولات الابتزاز المستمرة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني لثنيه عن المقاومة ودعمها ببعيد أيضاً عنا.

لقد ابتدأ هذا المسلسل الابتزازي المقيت، منذ أن حدد هذا الشعب الفلسطيني اختياراته السياسية في انتخابات حرة ونزيهة شهد العالم كله بذلك لها، كان العدو الصهيوني ومن والاه يريد لهذه الانتخابات أن تجري وفق حدود وضوابط اتفاقات أوسلو، فتكون هذه "السلطة الوطنية الفلسطينية" المفرزة، طيعة لمستلزمات هذه الاتفاقات، أي أن تكون سلطة تخاصم المقاومة وتحاصرها وتعمل على كبح جماحها، تحت دعاوى أمنية واهية، فكان أن حولت المقاومة هذه الانتخابات إلى انتزاع لشرعيتها جماهيريا وإلى مزاحمة المفسدين والمطبعين ومحاصرة مشاريعهم، وإلى "تثوير اتفاق أوسلو" من داخله، فأضحت هذه السلطة المكتسبة جماهيرياً إلى سلطة تحتضن المقاومة وتدعمها ضداً على خطط "اتفاقات أوسلو وملحقاته"، وهذا ما لم يرق أعداء التحرير من الصهاينة ومن والاهم، فكان أن انطلق مسلسل "العقاب الجماعي" لهذه الاختيارات الحرة وأهلها في فلسطين، وشهد العالم مسلسل الحصار المالي ضد الفلسطينيين وحكومتهم المنتخبة، وما خلفه من آثار اجتماعية على هذا الشعب، ومسلسل الحصار الاقتصادي من منع تدفق المواد الغذائية وكل ضروريات العيش والأدوية على غزة وحتى التضييق على مرور الحجاج الفلسطينيين، ومحاولات لزرع وكلاء الصهاينة بغزة عبر التحكم في الملف الأمني من خلال مخطط أمني محكم أشرف عليه جنرال أمريكي لتدريب كوادر أمنية قادرة على مواجهة المقاومة من الداخل وكبح جماحها، تلك المحاولات التي فشلت بعدما تم تخليص منطقة غزة من هذه العناصر الخيانية التي خططت لزرع الفتنة من الداخل.

كل هذا المسلسل الابتزازي كان الهدف الوحيد منه هو اقتلاع جذور المقاومة وتركيع الشعب الفلسطيني، وجر العناصر الطيعة مما يسمى "السلطة الفلسطينية" للقبول بحلول نهائية مذلة، ولقد سمعنا آنذاك وما زلنا نسمع عن المراهنات الأمريكية على دولة فلسطينية مؤقتة بدون قدس بدون عودة لاجئين بدون الإفراج عن أكثر من عشرة آلاف معتقل، بدون أراضي 67 ولا أراضي 48، أرادوا بأفعالهم الإجرامية وحصارهم الظالم وابتزازاتهم المتكررة وخططهم الأمنية أن يوجهوا رسالة لهذا الشعب وكأني بلسان حالهم يخاطب هذا الشعب وأهل غزة خصوصاً قائلاً: "هذا ما جناه عليكم اختياركم الحر"، وحق قولهم ولو أجرموا وأبادوا وقتلوا، فالاختيار الحر للفلسطينيين أربك حسابات الصهاينة ومن والاهم، وانفضحت شعارات الديمقراطية بعدما أفرزت ما لم تشتهه مخططات الأعداء، فكان الانقلاب على هذه الشرعية، من خلال محاصرتها والتضييق عليها وعدم الاعتراف بها، وعجباً لمن يقلب الحقائق فينسى أو يتناسى أن الانقلاب الحقيقي على الشرعية كان ممن تشدقت أدبياتهم وأقلامهم  وإعلامهم وتصريحاتهم في الغرب وعند الولايات المتحدة الأمريكية بمقولات الديمقراطية. 

عذراً على هذه "الأرتودوكسية التاريخية المغالية"، عذراً؛ لأن الذاكرة قد تخون أحياناً فتفقد البوصلة في تحليل المواقف وتقييمها، لذلك فأجدني مضطراً إلى أن أنبش فيها تواصلاً مع كل هذه الأجيال التي ولدت بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987، والتي تنظر بشغف وحب إلى حلم التحرير والتي عاشت انتفاضة الأقصى والحرب الصهيونية على غزة، ونظرت باستغراب إلى هذا "الانقسام الفلسطيني" الذي يجري، وإلى هذه الحرب الكلامية مع التلاعب بالمصطلحات وتوظيف شعارات التحرير، من أجل المزيد من الانبطاحات والتنازلات المضرة بمسلسل التحرير الذي ينبغي أن يستمر، هذه هي الحكاية ومن اختلطت عليه وقائع الحال فلينظر إلى الذاكرة الحية فهي حتماً ترشده وتنير له طريق المآل.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد بوعشرين
كاتب وباحث في قضايا الفكر السياسي الإسلامي
ناشط حقوقي وسياسي، وكاتب وباحث في قضايا الفكر السياسي الإسلامي، من مواليد مدينة مكناس بالمغرب، خريج كلية الحقوق جامعة المولى إسماعيل تخصص اقتصاد، حاصل على الماجستير في الفكر الإسلامي من جامعة بيروت الإسلامية، ودبلوم دكتوراه في الفيزياء من جامعة محمد بن عبد الله بفاس، ناشط جمعوي ورئيس سابق لجمعية منبر الحوار للتربية والثقافة والفن.
تحميل المزيد