للأدب سحرٌ خاص من بين جميع التصنيفات المعرفية، يمتد تأثيره بين الشعوب جميعاً؛ ولذلك يتربع الأدب على قمة الهرم اللغوي.
فالأدب يُعرف بأنه أحد أشكال التعبير الإنساني عن الأفكار، والمشاعر، والعواطف، والهواجس، بأرقى الأساليب الكتابية المتنوعة من نحو نثر، وشعر، لتتفتح مدارك الإنسان ليعبّر عما يشعر به، وما يحاول التعبير عنه.
لذا تحاول المؤسسات الثقافية سدّ الفراغ وتعويض النقص في الأعمال الأدبية الجيدة، بالحصول على حقوق نشر الكتب من اللغات الأخرى، وعادة لأدباء مرموقين. وتنتقي لإتمام تلك المهمة المترجمين المحترفين وأصحاب الذائقة الأدبية أولاً، إذ إن هذا النوع من التراجم له خصوصية شديدة، تحتاج لمرونة في التعامل مع النص الأصلي؛ بهدف تحويله إلى نصٍ مستساغ دون الإخلال بجماليّات النص في اللغة الأساس بقدر الإمكان، وإضفاء طبعة تناسب اللغة المنقول إليها، بتعبيرات أدبية رصينة، ودون خللٍ أو إخلال بالنص المُّترجَم.
وهكذا بدأ العديد من الكُتّاب مسيرتهم الأدبية بالانخراط في الترجمة، وكانت المحطة الأولى التي يخطو إليها كُل كاتبٍ في مقتبل العمر وريعان الشباب، إذْ لا يزال في طور الاستكشاف والملاحظة والإصّغاء إلى الكِبار والمعلِّمين بهدف التعلم منهم؛ ثم البدأ بتكوين الأسلوب الخاص للكاتب.
هكذا بدأ الكاتب الشهير "بول أوستر" حياته الأدبية، محترفاً للترجمة بعد تخرجه في جامعة كولومبيا في نيويورك، أواخر الستينيات من القرن المنصرم.
اختار أوستر الفرنسية كلغةٍ أولى بعد لغته الأمّ، فكانت لها كبير الأثر في مشواره الذي يمتد من منتصف السبعينيات إلى بضع سنواتٍ خلتْ. كان للترجمة فضلان كبيران عـلى أوستر خلال ممارسته لها وهـو في شرخ الشـباب؛ فالفضل الأول يعود إلى أنَّ الترجمة أتاحت له التمرس باللغة الفرنسيِّة التي يحبها، وعبرها أحب فرنسا وعاصمتها باريس، واستقر بها أوائل السبعينيات؛ فاطَّلع على آثار ثقافتها الفكرية والأدبية والفنية اطلاعاً خوله للإحاطة بجوانبها الثرية، وتوجهاتها الفِكْرية المتنوعة وقتذاك من تيارات مختلفة كالوجودية والعبثية وما بعد الحداثية.
وقد بادلته فرنسا الحب، إذ ظلت تحتفي به وبكتبه على الدوام، من خلال ترجمة كُل مؤلَّفاته. ويعدُّ من أكثر الأدباء الأمريكيِّين شهرة وصيتاً وذيوعاً في فرنسا.
والفضل الثاني أنها أتاحت له فرصة للارتزاق وكسب الحياة من خلال ترجمة المقالات وإنقاذاً له من الخصاصة، حينما كان في نزق الشباب بلا دخل ثابت. وفي هذا الشأن، يقول في سيرته الذاتية "تباريح العيـش": ترجمـت نِصـفَ دزينةٍ من الكتب بمعيِّة زوجتي "ليديـا ديفيـس". كانت هذه الترجمات هي المورد الأساسي لدخلنا. وكنَّا نعمل معاً من أجل مقدارٍ من الدولارات. لم تكن المكافأة جيِّدة. ولم نكن نتخطى الحد الأدنى للأجر". (تباريح العيش، صفحة 122)
في اعتقاد بول أوستر الترجمة تُعد للكاتب الشاب "مدرسةً رائعة" و"تمريناً جوهرياً" يُبْصر من خلالها تفككات النص وتركيبه لا سيما السريالية منها، إذ أول ما ترجمَ ترجم المقالات السريالية لكتِّاب فرنسا الذائعي الصيْت أمثال: "بودلير" و"رامبو" وكذلك "فرلين".
فك الشفرات
لنفهم طبيعة شخصية المرء يجب الغوص في أعماق تاريخها السَّحيق، لننظر أي المقومات أهلته ليصبح ما هو عليه الآن؛ فنشأ "بول أوستر" في كنف خاله "ألين ماندلباوم" فكان هو الآخر مترجماً لـ"دانتي" و"فرجيل" و"هوميروس" علاوةً على ذلك تلك المكتبة الضخمة الكائنة في مكتب خاله، حفزته ليصير كاتباً كبيراً. فلم تكن الترجمة إلا قصة وإرثاً عائلياً مشتركاً انجذب من خلاله الشاب وقتذاك إلى عالم الأدب والفكر.
تعرف في البدايات على الشاعر الفرنسي "دوبوشيه" والشاعر "دوبان" التي ستربطه به أواصر الصداقة، وسينشر للأخير أولى مجموعاته الشعرية.
للغة الشعرية حساسية خاصية متفردة دأب المترجمون على فك شفراتها للحيلولة دون وقوع لبسٍ في الترجمة بالأساس، والانتقال بها من مجرد كلمات جامدة بلا حياة، إلى أبياتٍ تحمل الدلالات المتعددة، والشفرات الخاصة لكل لغة؛ لذلك سعى بول أوستر إلى دعوة الشعراء فقط إلى ترجمة الشعر، فهم أحق الناس بترجمته والأقدر على هذا النوع الأدبي.
التنظير للترجمة
بوصفها عملاً إبداعياً لا يقل عن التأليف، عمل بول أوستر كمنظّر للترجمة مثلما يَشِي بذلك كتابه "ابتكار العزلة" (1982) الذي يذكُر فيه بعض الترجمات ويُعلِّق عليها، على الرغم من أنه سيؤكِّد، لاحقاً، خلال مقابلةٍ معه عام 1999 أنَّه "لم تكن لديه، وليست له نظرية في الترجمة، وإنما هدفه الأهم الوصول إلى ترجمةٍ جيدةٍ إلى اللغة الهدف (لغة الوصول) ترجمةً تشبه، في الحق، النص الأصلي" .
أما فيما يخص الصعوبات المتنوعة التي واجهها، أو تغلب عليها في مطلع حياته خاصّة، بالإضافة إلى الخيارات التي حرص عليها في ترجماته؛ فإن "بول أوستر" يُؤكّد على "أنّه اضطر أحياناً، إلى الانكباب على بعض التّعديلات" حتّى لا يستشّعر القارئَ التركيبَ اللغوىَّ الفرنسيَّ الأصلي في الترجمة الإنجليزية؛ لذلك يبدو أنَّ بول أوستر ينْحاز -بالأحرى- إلى جانب اللّغة الهدفْ، على الرغم من أنه يؤكد احترامه دائماً في عمله الترجميِّ لقاعدة الأمانة التي اختطّها المؤلِّف لنفسه.
واصل بول أوستر نشاطه بوصفه مترجماً، والآن أصبح كاتباً، وسيقوم، بعد ذلك، بتدريس الترجمة في جامعة برينستون من عام (1986) إلى (1990)، وسيحل، أيضاً، لتدريسها في جامعة كولومبيا، لفصل دراسي واحد.
وفي الختام، وبعد نشره لترجماته الأخيرة: (مختارات من قصائد جاك دوبان)، و(مختارات من قصائد روني شار)، أصدر، عام (1997)، حزمة من ترجماته التي يتعذّرُ الحصول عليها، تحمل عنواناً مبسطاً "Translation" أي "ترجمة".
وبعد هذه الفترة، لم تحتل الترجمة الجانب الأكبر والأهم عنده كسابق عهده بها -أو على الأقل- لم تعد مباشرة في مسيرة بول أوستر الثقافية والفنية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]