هذا المقال يروي قصة مبنية على أحداث حقيقية لا تخص كاتبته
لا يدرك المحتل يا ولدي أن الفلسطيني يحب الحياة، وأنه لا يفقد الأمل مهما أحاطت به عتمة الزنزانة وأطبقت القيود أنيابها على عنقه، لا يمكن لهذا المحتل أن يفهم أن الفلسطيني يموت ليحيا بكرامة، صحيح أن الموت والحياة ضدان لا يلتقيان في أعراف الناس إلا أن حكايتهما في أعراف الفلسطينيين مختلفة، فلدى الفلسطيني الحياة التي تستحق الحياة تبدأ من التضحية وبذل الروح بسخاء.
يعتقد السجان يا ولدي أن باحتجازه لجسد الفلسطيني أسيراً في سجنه يحتجز معه روحه وأمله في الحياة، ويعتقد أنه بذلك قد ألحق الهزيمة بكل المعاني الجميلة داخل نفسه، إلا أن الأسير الذي وصل الأسر لأنه صاحب رسالة وصاحب هدف عظيم لا ينضب نبع الأمل داخله.
حاول السجان يا ولدي قتل والدك الأسير بكافة الوسائل التي قد تخطر على بال بشر، وتلك التي لا تخطر على بال الشياطين، فلم يترك معه معارك جسدية ولا نفسية، وضغط عليه بكل الوسائل التي تجهض جبل، فكيف بأسير مكبل مرهق؟ إلا أن والدك خرج بعد ذلك كله منتصراً.
بغباء شديد حكم المحتل على والدك بالسجن عشرة مؤبدات، أي أن مجموع السنوات المحكوم عليه أن يقضيها في السجن يزيد عن معدل حياة الإنسان -أطال الله في عمر والدك وأعمار جميع الأسرى- يربطني بوالدك يا بني عقد وشهر من الزواج، ستستغرب، فهذه فترة قصيرة جداً لا تكفي لأن ترهن امرأة ما زالت فتية حياتها مع زوج لا أمل لها في الحياة معه، ولكن الوفاء يا ولدي سمة تكاد تلتصق بالمرأة الفلسطينية، فمهما استجدت عليها من ظروف قاتمة تكاد تخنق كل أمل لها في حياة جميلة، إلا أنها تبقى على عهدها مع فارسها.
أرسل لي والدك رسالة يخبرني عن طريقة ابتكرها الأسرى ليتمكنوا من الإنجاب رغم الزنزانة والقيود وعتمة السجن وإجراءات السجان المشددة. إنها النطف المهربة، وعرض عليَّ في رسالته تلك أن أهيئ نفسي للإنجاب إن كنت أرغب عبر تلك الطريقة، وطلب مني أن أفكر بالموضوع، وأستشير طبيباً، ثم أخبره بقراري. ستسألني يا ولدي: ما هي النطف المهربة؟ وما ستفعل لرجل أسير؟ حسناً سأخبرك بكل شيء:
لا تستطيع المرأة الإنجاب من زوج يقبع في الأسر، يبعد عنها مسافات، وتفصله عنها جدران وقيود وجواجز، إذن كما حكم المحتل على والدك بمؤبدات من السجن، فقد حكم عليَّ أنا أيضاً بمؤبدات من الإقصاء عن مشاعر الأمومة التي تتأصل في نفسي، فكم أتمنى جنيناً يتحرك داخل أحشائي، ألده، أحبه، أرضعه، أعتني به، أضمه إلى صدري، وأتركه لينام في حجري، وتكون أول كلمة يتلفظ بها هي ماما. بمقاييس المحتل وأحكامه يا ولدي تبعد بيني وبين أمومتي مسافات كتلك التي تفصل القمر عن الأرض، إذن لن يكون لدي صغير يُشبع نهمي الأمومي ما حييت، وإذا كنت متمسكة بخيار الأمومة فلا بد لي من الطلاق من والدك، وهو ما لم أكن مستعدة له.
وبدأتُ رحلة الإعداد مع الطبيب، وتحضير البويضات الأنثوية التي سُحبت من بطني وحُفظت في أنبوب مخبري، وفي موعد الزيارة كان والدك قد أعدَّ النُّطف التي يرغب في إرسالها ليتم تلقيح البويضات بها، وبما أنه لا أنابيب مخبرية في الزنزانة، ولا طبيب يحفظ النطف، فقد ابتكر الأسرى وسيلة تحفظها حية صالحة للإخصاب لأطول فترة ممكنة.
ومن داخل عتمة السجن، هربتك جدتك يا صغيري نطفة محفوظة داخل حبة تمر، أوصلتها إلى الطبيب، وتم التلقيح في الأنابيب، ثم تمت زراعة البويضات المخصبة داخل رحمي، وبعد ما يقارب من شهور أربعة شعرت بحياة جديدة تدبّ داخل أحشائي، طرت فرحاً، لم أصدق نفسي، ها أنا ذا سأغدو أماً رغم القيود والمؤبدات، ولن ينقطع اسم أبيك، فإنك هنا تحمل اسمه وتذكره وتُذكر الناس به.
قدمت إلى الدنيا يا ولدي، وبقدر حزننا على والدك حلّ الفرح على قلوب الجميع، حتى جدتك التي كادت تفقد البصر لشدة بكائها على والدك تبدّل حالها، بعثت الأمل فينا جميعاً، سمّاك والدك أنيساً لأنك قدمت لتؤنس قلوبنا، أما المحتل فقد جُنَّ جنونه لميلادك يا قرة عيني، فكيف لأسير خلف جدران وقيود أن يعود للحياة فيتناسل ويجدد الأمل؟ وهذا لم يكن أول نصر يحققه الأسرى على السجان.
احفظ كلماتي هذه يا صغيري، أنت الآن الرجل الصغير الذي يسند ظهورنا ويجبر قلوبنا، ويقوم مقام والده حتى ينظر الله في أمره ويعود إلينا شامخ الرأس من أسْرِه، فكن على قدر الأمانة الملقاة على عاتقك، وأنا أعلم تماماً أنك لها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.