يتماهى مع رواية إسرائيل وتبنَّته أنظمة مطبِّعة.. هل يخدم فيلم أميرة الاحتلال بشكل غير مباشر؟

عدد القراءات
693
عربي بوست
تم النشر: 2021/12/10 الساعة 12:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/12/10 الساعة 14:09 بتوقيت غرينتش
لقطة من فيلم "أميرة"/ مواقع التواصل الاجتماعي

"التريند" الرئيس خلال الساعات الأخيرة عربياً، انتقل من كرة القدم وتقاطعاتها، أبو تريكة ومواقفه، وصلاح وتوقعات الجمهور حياله، وكأس العرب في قطر، وعاد مجدداً إلى مساحات الاجتماعي والثقافي والفكري، بل السياسي، من خلال تسليط الضوء على فيلم أميرة الذي أنتجته عدة دول عربية لمناقشة أحد فصول حياة الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.

المفترض أن فيلم أميرة بدأ عرضه في المهرجانات الخارجية، بأوروبا والوطن العربي، منذ سبتمبر/أيلول الماضي. ومع ذلك، فإن الضجة التي وقعت في الساعات الأخيرة، ارتبطت بترشيح السلطات الأردنية فيلم أميرة ممثلاً عنها في منافسات جائزة "الأوسكار" الدولية. 

يحكي فيلم أميرة باختصار قصة فتاة (18 عاماً) تدعى أميرة، تقوم بدورها الفنانة الأردنية صبا مبارك، التي تظن أنها نتاج تلقيح صناعي عابر للقيود من نطفة لأب فلسطيني؛ ولكنها تكتشف لاحقاً، في ذروة التطور الدرامي، أن النطاف كانت لجندي إسرائيلي محبوس في السجون العبرية، لا لوالدها المتوهم. 

تهريب النطاف.. نضال من نوع خاص

النضال الفلسطيني ليس مقصوراً على أوقات الذروة التي يرى فيها المشاهدون عبر شاشات التلفاز ووسائل الإعلام، قيام الفلسطينيين بالاشتباك المدني، أو المسلح، أفراداً أو جماعات، مع عناصر الاحتلال الإسرائيلي، رغم فوارق القوة والدعم الدولي الهائل للاحتلال والتخاذل العربي، خلال حروب أو انتفاضات.

وإنما يشمل، بطبيعة الحال، فصولاً غير مرئية تتصل بالحياة اليومية، ربما لا تحظى بنفس القدر من الاهتمام الإعلامي الذي يسلَّط على الفلسطينيين خلال أوقات الذورة والأحداث الفاصلة في تاريخ القضية، وهو ما يفترض أن تسلط عليه الأنواع غير الشائعة من فنون الكتابة والمشاهدة، كالأفلام التسجيلية والوثائقية والآداب الشعبية، أضواءها.

سأذكر مثالاً سريعاً على أنواع النضالات الفلسطينية غير المعروفة عربياً وفنياً، نظراً، ربما، لمأساويتها ولعدم تحمُّس صناع الفن إلى تقديمها في حبكات درامية، أو ربما، أيضاً، لتعلقها بمدى بشاعة الاحتلال وكلفة إظهار تلك الجرائم للنور. 

ذلك المثال النضاليُّ غير الشائع عربياً هو ما يعرف بمقابر الأرقام، تلك المقابر التي تدفن فيها سلطات الاحتلال جثامين الفلسطينيين المشاركين في عمليات فدائية ضدها، منذ مدد بعيدة، في أوضاع لا تتلاءم مع الأعراف الدولية أو التقاليد الإسلامية، داخل أحيزة أمنية، وذلك كإجراء عقابي بحقّ هؤلاء الأبطال، ناهيك عن الإهانات التي تتعرض لها الجثامين، قبل الدفن، لأسباب أمنية وبيروقراطية، مما يصعب لاحقاً مهمة التعرُّف على هُوياتهم. 

وكما يناضل الفلسطينيون من أجل محاولة إخراج أسراهم الأحياء من السجون، فإنهم يناضلون، أيضاً، من أجل إجبار الاحتلال على تسليم رفات هؤلاء الشهداء لأسرهم، نضالاً قانونياً محلياً ودولياً، ولكن الاحتلال يعتبر ذلك أحد الإجراءات العقابية الرادعة بحق جثامين من نكلوا به قبل موتهم. وبالتالي، يسلب الفلسطينيَّ صاحب الأرض الحقَّ البسيط، لا في الحفاظ على حياته فقط، لكن حتى من نيل الحق الثقافي في التكريم الاجتماعي. 

بالعودة إلى موضوعنا الرئيس، الذي يعد أحد فصول النضال الفلسطيني المتشعبة، وهو موضوع تهريب النطاف؛ فقد بدأ كما تقول التحقيقات الاستقصائية، بالصدفة نهاية التسعينيات، وذلك عندما حاول أحد الفلسطينيين المطلوبين لدى أمن الاحتلال، قبل اعتقاله، إجراء عملية "حقن مجهري" تقليدية في المعمل، عبر ترك النطاف والبويضات للمتخصصين عن تلك العملية، ثم جرى اعتقاله، فبات هو في الداخل، في السجن، ونطافه في الخارج؛ ومن هنا جاءت الفكرة! 

السبب الرئيس للتفكير في تلك الوسيلة أن الاحتلال الإسرائيلي، عادة، ما يسلب المعتقلين الفلسطينيين الحق في اللقاء الشرعي والغريزي بزوجاتهم. ومع مدد المحكوميات المرتفعة للغاية، والتي تصل إلى ربع قرن ونصف قرن في المتوسط، باعتبارها أحكاماً رادعة، وإصرار الفتاة الفلسطينية على البقاء بجانب زوجها؛ فإن فكرة تهريب النطاف جاءت حلاً لديمومة النسب واستمرار الأسرة، رغم الظروف؛ حيث أُطلق على هذا النوع من التناسل غير المباشر، أبناء أو سفراء الحرية. أي أن الفلسطينيين نجحوا في تطوير طريقة جديدة للالتفاف على السجّان.

الأمر ليس سهلاً 

تنطوي تلك العملية على صعوبات جمة. ترتبط تلك الصعوبات بالسياق القهري الموضوع فيه السجين. السجن في بيئة أمنية معقدة ومتطورة. وبطبيعة العملية نفسها، إذ كيف يمكن للسجين إخراج نطاف سليمة من الناحية البيولوجية، قادرة على تلقيح البويضة الأنثوية في تلك الظروف، وكما هو معلوم، فإن كثيراً من المتزوجين بصورة طبيعية لا يستطيعون القيام بذلك، رغم سهولة اللقاء.. فماذا عن المحبوس؟

طبياً، يحتاج السجين في تلك الظروف، توفير النطاف، بكميات كافية للتلقيح والحفاظ عليها حيةً لحين تسليمها إلى الطرف الآخر، الذي يقوم باصطحابها إلى المعمل. لذلك، فأمام ظروف وفرص النقل شديدة الصعوبة، هناك احتمالات كثيرة وعوامل ينبغي توفيرها لضمان وصول النطاف بالشكل المناسب؛ وإلا ستفشل المحاولة، رغم الجهد المبذول فيها. 

اجتماعياً، فقد أدت هذه الطريقة المبتكرة إلى نشوء تحديات جديدة. فزوجة المعتقل، لا ترى زوجها، فضلاً عن أن تلاقيه حميمياً كما هو معلوم. وفي نفس الوقت وبعد فترة، قد يُدهش الجميع، بكونها صارت حاملاً؛ وهو الأمر الذي إذا لم يهندس جيداً، قد يفتح الباب أمام مشكلات تضعف من الرابطة الاجتماعية للأسر الفلسطينية، من حيث يُراد تقويتها، في تلك الظروف الثقافية الوعرة. 

أمام هذه التحدي الذي نشأ في الأصل بسبب بشاعة المحتل، توصل الفلسطينيون إلى مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى تلافي مثل هذه الظنون. الإجراء الأول هو الشهود. في عنبر كذا، في سجن كذا، بحضور فلان وفلان من الإخوة الأسرى، خرجت نطاف الأخ فلان المعتقل منذ مدة كذا في سجون الاحتلال، وجرى تسليمها إلى ذويه، سراً، في وعاء معين، يتناسب مع الأوضاع، لمحاولة تلقيح زوجته التي لا يمكنها لقاؤه بصورة طبيعية. 

كسر إرادة السجَّان 

من يتابع ملف الأحوال السجنية في الأراضي المحتلة، يعلم حتماً أنه ملف مليء بكم هائل من تفاصيل النضال والمقاومة، بدءاً من أسباب الاعتقال، التي تكون عادة مرتبطة بتهديد أمن المحتل أو القيام فعلاً بعمليات فدائية ضد أهدافه، مروراً بالصمود خلال لحظة التقاط الصورة التي تكثف تعابير وجه كلّ طرف، وصولاً إلى المقاومة داخل السجن، إما بإكمال الحياة عبر التقدم الدراسي.

أو بالنضال لتحسين شروط الاحتجاز، بالقوة المباشرة، أو بالحراك المدني الجماعي، ويذكر المختصون النضال الشهير قبل عامين من أجل رفض تركيب معدات تكنولوجية تسبب مشاكل صحية للأسرى وتهدف إلى التجسس المباشر عليهم، وهو ما نجح فيه الأسرى فعلاً، وذلك إلى ما شاهده العالم جميعاً، من نجاح الأسرى الأربعة في الهروب من نفق في سجن جلبوع شديد الحراسة.

بعض الأسرى الفلسطينيين تفرغوا لدراسة الشؤون العبرية خلال سنوات الاعتقال، من لغة وآداب ومباحث أمنية، لدرجة أنهم تخصصوا بها عندما خرجوا من السجن، وصاروا خبراء في الشأن العبري يشار لهم بالبنان، وبعضهم خطط من داخل السجن لعمليات فدائية. وبعضهم خرج من السجن بعد مدد محكومية عالية، ليقود أو ينفذ بنفسه عمليات ضد الاحتلال. 

إلى ذلك، فالاحتلال يتلقى صفعةً حقيقية، دون مبالغة، مع نجاح كل محاولة فلسطينية لتهريب النطف. فقد خرجت النطف سليمة، بشهادة الشهود من السجن، وبات الأسير الممنوع من لقاء زوجته أباً، وربما تأتي زوجته بالولد لزيارة أبيه إذا فُتح باب الزيارة، مما يبسط مناخاً من البهجة والفخر في مجتمع الأسرى العربي لدى الاحتلال. 

هل يخدم فيلم أميرة الاحتلال؟ 

تقدَّر أعداد أبناء الحرية الفلسطينيين منذ عام 2012، حينما تمت أول عملية ناجحة لتهريب النطاف، بأكثر من 60 مولوداً. وأمام هذه الظاهرة التي باتت ماركة مسجلة وفصلاً ملحمياً من فصول النضال الفلسطيني، بدأت السلطات الإسرائيلية في محاولة الحدّ من تطورها. 

وفقاً للتقارير الأمنية، فإن الإجراءات الإسرائيلية لمنع هذه العملية، تشمل التضييق على كلّ الأوعية والمتعلقات الشخصية، خاصة في عملية الخروج من السجن مع الذكور من ذوي الأسرة. وفي نفس الوقت، فرض إجراءات عقابية بحقّ من يقوم بذلك، وصولاً إلى منع تسجيلهم في الوثائق الرسمية بعد الولادة، كأنهم بلا أب. 

يعد هذا النوع الأخير من الإجراءات العقابية، المنع من التسجيل، إحدى أبرز أكثر أدوات الأنظمة القمعية المستخدمة ضد خصومها. متوالية تبدأ من احتجاز الجسد، إلى احتجاز الجثامين بعد الموت، إلى التضييق على الجنازات التي تعد مواكب تشييع شعبية تجمع بين الفخر والغضب، وصولاً إلى مطاردة الفارّين خارج الأراضي الرسمية للدولة، ومحاولة منعهم من الأوراق الثبوتية في السفارات والجوازات، وهو ما يندرج تحته في موضوعنا المنع من التسجيل.

أمام تكاتف المجتمع الفلسطيني لإنجاح التجربة، عبر تكييفات شرعية، وإجراءات معقدة لحفظ النسب وضمان التوثيق في السجلات الفلسطينية على الأقل، فإنَّ أسوأ ما قد تتعرض له هذه الممارسة، إلى جانب القيود الأمنية المشددة لمنع خروج النطاف وعقاب من يقوم بذلك؛ هو التشكيك في النسب، خصوصاً في مجتمع مسلم عربي محافظ، وفي تلك الظروف الفلسطينية.

التماهي مع رواية الاحتلال

مؤخراً بدأ الاحتلال فعلاً وبشكل رسمي دون مواربة، يلعب على هذا الوتر. التشكيك في الشرف الفلسطينيّ. التشكيك في القدرة على حدوث عملية التلقيح في ظل الإجراءات الأمنية المشددة. فتح باب الظنون، وتحويل العملية من أداة لتقوية الرابطة الفلسطينية، إلى مدعاة للشك والنيل من صلابة تلك الرابطة. 

بالتزامن مع عرض فيلم أميرة وتبنيه رسمياً من الأنظمة العربية، للمفارقة، بدأت الصحف العبرية، على رأسها يديعوت أحرونوت، تفرد المساحات للمتخصصين في الطبّ والشؤون الأمنية للوصول إلى استنتاج نهائي مفاده أنه من الصعب التثبت من نسب هؤلاء الأولاد، ومن المستحيل نجاح تلك المحاولات.. إذاً، أبناءُ مَن هؤلاء؟ يقول المحتل.

يلتقي فيلم أميرة مع رواية الاحتلال بخصوص التشكيك في نسب أبناء الحرية، حصاد المحاولات المضنية لتهريب النطاف بنجاح، فيقول إن من الوارد أن تكون تلك النطاف لا تعود للأب المعروف، بل ربما لا تعود إلى فلسطيني أصلاً، وإنما إسرائيلي مسجون مع الفلسطينيين.

يبرر صناع فيلم أميرة تلك الجريمة الثقافية والاجتماعية البشعة عبر تبريرات واهية، فالفتاة تختار في النهاية أن تنحاز إلى انتمائها المنشود أولاً، إلى فلسطين، لا إلى الاحتلال. ويتأول صناعه ما هو منشور وموثق عن إجراءات حفظ النسب، وصعوبات العملية، وفرص فشلها المرتفعة، وتقاطع سرديتهم مع رواية الاحتلال وأهدافه، بأن الحبكة خيالية وأن فيلم أميرة يبرز معاناة الأسرى، لا يتبنى رواية الاحتلال، ويقدم افتراضاً فلسفياً. 

سواء كان الغرض من فيلم أميرة هو مجرد "أنسنة" المحتل، اتساقاً مع المزاج الفني الغربي الخاصّ بنمط أفلام المهرجانات، والخلفيات الأيديولوجية التلفيقيّة التي ينتمي إليها صناعه من الكتاب والمخرجين، أو كان أكبر من ذلك وأخطر، اتصالاً بالدول الراعية للفيلم؛ فمن الجيد حدوث تلك الضجة الشعبية ضد هذا العمل، لا من أجل قمع حرية التعبير، ولكن احتراماً للسياقات. ومن الذكاء أيضاً أن يُعاد توظيف هذه الأزمة لتسليط الضوء على جرائم الاحتلال في حق الأسرى، على غرار منعهم من لقاء زوجاتهم، كما ينص القانون الدولي.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا
كاتب مصري مقيم بأستراليا
تحميل المزيد