يبدو أننا، ومرةً أخرى، أمام فيلم جديد، يبحث عن مكانٍ له وسط "التابوهات"، أي المحرمات والمحظورات، و في عالم صناعة الأفلام، عندما نقول محظورات فهي ليست محظورات الدين فقط وإنما محظورات مجتمعية وأخرى سياسية أيضاً. وبما أن إثارة الجدل هي إحدى أسرع الطرق للانتشار والشهرة لأي فيلم، ولأن إحداث الضجيج هدفٌ مُعلنٌ وغير معلن لصُناعه، فإنه يتم البحث عن زوايا في هذه المحظورات لطرحها، لعلها تكون بطاقة العبور للمهرجانات السينمائية العالمية.. فما الذي يحدث بالضبط في مثل هذه الحالات؟
يمر أي فيلم بمراحل متعددة قبل ظهوره على الشاشة، بل حتى قبل البدء بتصويره وتنفيذ الرؤية الخاصة بمخرجه أمام العدسات.
تبدأ الرحلة بالفكرة الأساسية ثم بعد ذلك النص السينمائي الذي تتم معالجته بصرياً قبل اعتماده من قبل المنتجين. ينفي هذا الطريق شبهة الجهل عن طاقم الفيلم وبالأخص الممثلين والمخرج والمنتجين، فهم المسؤولون عن تنفيذ الفكرة التي أشرفوا أو ساهموا في ولادتها وتطويرها.
الممثلون يقرأون النص قبل التمثيل، والمخرج يتدارس النص مع الكاتب والمنتج، ومن ثم لا توجد فرصة للسقوط والسهو في عالم الإنتاج سواءً في النص أو المشهد أو التفاصيل.
النص السينمائي واقع بين خيارين: الخيالي والواقعي، وهناك الخيالي المبني على الواقعي. في ذلك الأخير تتعرض بعض الحقائق للتحوير إما بشكلٍ مبالغ فيه أو أقرب للخيال أو بشكل يعظّم النقاط الدرامية ذات الجذب المشهدي والتي تؤجج العواطف، ففي الرومانسية تؤجج عاطفة الحب، وفي الحرب تؤجج الشعور بالعنف، وفي الرعب تؤجج الشعور بالخوف، وفي الكوميديا تؤجج الشعور بالسعادة.
وإذا كانت القصة الأصيلة جيدة، فعادة لا تحتاج لكثير من التحوير، إذ تفرض حيثيات القصة الأصلية ذاتها على المشهد السينمائي ويبقى تسليط الضوء على بعض التفاصيل هو الذي يلعب دوراً أساسياً في إيصال المشاعر للمشاهد.
المشكلة في فيلم "أميرة" هي إطلاق الخيال لأمرٍ لا يمكن حدوثه، في قضية مُقدّسة، تتعلق بالأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي من جهة، وفي الطعن في النسب من جهة أخرى، وتسريب الشك إلى ذواتٍ وُلدت رغم أنف المحتل في ظروف مركبة، واستسهال النفاذ عبر هذا "التابو" لصناعة قصة "حتكسر الدنيا"، بينما يتحسس المنتجون رؤوسهم كلما نفذ النص في فيلمهم إلى "تابو" سياسي أو مقاربةٍ للحريات في بلادهم.
قصة تهريب النطف، التي تصل إلى حد وصفها بالمعجزة، لا تحتاج إلى إضافةٍ تحويرية تذهب بنا بعيداً عن خدمة الفكرة الأساسية، بل تساهم في زرع بذرة التشكيك في كل هذا النضال في أكثر نتائجه حساسية، أي تلك التي تتعلق بالنسب، في "سفراء الحرية". والنسب هنا ليس لاعتبارات دينية أو شرفية بحتة، وإنما لأن نتائج هذه العملية "تهريب النطف" قد أفضت إلى وجود أطفال من آبائهم المسجونين خلف القضبان والذين ليس لهم أي أمل في أن يكونوا آباءً إلا بهذه الطريقة المبتكرة والمعجزة. ولهؤلاء الأطفال الفخورين بآبائهم المعتقلين بسبب نضالهم في سجون الاحتلال والفخورين بقدرة هذا النضال على ابتكار المعجزة التي أوصلتهم للحياة، كل الحق في رفض أي تشكيك في أصل وجودهم من كائنٍ، حتى لو من باب الفن وحرية التعبير و مساحات التفكير.
هل وضع أي منهم نفسه مكان أحد هؤلاء الأطفال أو الأمهات؟
إنّ نقص المعلومات الواضح، أو التغاضي عن المعلومات الأساسية التي تتحدث عن دقة وسلامة عملية تهريب النطف وتترفع بتعالٍ عن كل الاحتياطات التي تتم حتى يمنع الوقوع في الخطأ أو فقدان العينة المهربة، وتحوير النص بعيداً عن الواقع للوصول إلى سيناريو مفصل لخدمة هذا التحوير، هو الجريمة المرتكبة بحق هذه القضية.
وإنّ فلسطيننا مليئة بالقصص التي تصلح لأن تكون فيلماً مبنياً على قصة واقعية، لكن وصفة الأوسكار معروفة وواضحة، وخلطة الوصول للصنم المعبود "الجائزة"، تتقدم لدى منتجين ومخرجين من هذا النوع على المعنى الحقيقي الذي يستطيع الفن أن يحمله ويوصله.
و بما أنه "لن يصنع أفلامنا إلا نحن"، و"نحن" تبدو نادرة هذه الأيام، وإن خرجت الأفلام من أناس يشبهوننا. لكنهم ليسوا نحن، وقصصهم التي في الأفلام لا تحمل من قصصنا إلا الاسم والفكرة المشوهة والباقي لهاثٌ خلف توليفة ترضي الأوسكار بعرض قصة شرقية بقالبٍ غربي.
وهذه ليست المرة الأولى يا سادة، بل ابحثوا في تاريخ المنتجين والمخرجين وحاكِموا كل الأفلام التي تصل إلى الأوسكار وغيرها، ستجدون أن التحريف قد نال كثيراً من تفاصيل قضيتنا، لكنها هذه المرة وجدت السوشيال ميديا التي حملت رد الفعل للجمهور الحقيقي بعيداً عن نُخب لجان التحكيم و مخملية السجادة الحمراء عشاق الجوائز.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.