على الرغم من هذه التجاذبات والسجالات التي أظهرتها نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة بين ميليشيات الحشد الشعبي وذراعها السياسية تحالف "الفتح"، وبين التيار الصدري الممثل السياسي لميليشيا "سرايا السلام"، لم تظهر تلك النتائج تحولاً ملموساً في شكل الخريطة السياسية في العراق، ومن ثم ميزان القوى بين تلك الأحزاب والتيارات والتجمعات القديمة المتحورة.
مكاسب الصدر التي تُرجمت في 73 مقعداً برلمانياً، والتي يراها التيار وزعيمه على أنها إنجاز كبير، وأنها نجاح للتيار من حيث التنظيم وإدارة المعركة الانتخابية، ما ينظر إليه على أنه توسع في دوائر انتخابية استطاع التيار اختراقها ومن ثم ترمز إلى قبول شعبي يجب الوقوف عنده، إنما هي في الحقيقة كمن أحرز هدفاً في غياب الفريق المنافس. فالمقاطعة الشعبية الكبيرة تجاوزت حاجز الـ60%، تفقد فرحة التيار الصدري بمقاعده محتواها وتعيده إلى حجمه الطبيعي، فنجاح الصدر الحقيقي في حشد أنصاره في مقابل فشل الآخرين ليس إلا.
أما تحالف "الفتح" الممثل الرسمي لميليشيا الحشد الشعبي، فلم يفهم القواعد التي أقيمت عليها الانتخابات الأخيرة، وتعامل معها بنفس خطة انتخابات 2018، على عكس الصدر. كما أن ميليشيات الحشد الشعبي وذراعها السياسية تعاملوا مع الانتخابات والناخبين بنفس المنطق الدارج لديهم؛ أنهم حماة العراق وبناة جدران الأمان فيه، وهو ما انهار مؤخراً بصرخة شيخ عشيرة بني تيم في وجه هادي العامري، ما يعكس حقيقة مرة لدى الحشد وممثليه السياسيين، مفادها أن العراقيين لم يعودوا يرون تلك الهالة التي رسمتها المرجعية والإعلام للحشد.
وعلى الرغم أيضاً من أن المالكي الذي استطاع إعادة تدوير نفسه من خلال تحالف "شيعي" بنى حملة كتلته الانتخابية على أوتار الطائفية، مخاطباً المكون الشيعي ولاعباً نغمة الأحقية الطائفية، ما يعني مزيداً من التغذية للفيروس الذي نخر في عظم العراق وأكل لبه ومزق لُحمته.
وعلى الرغم من أن بعض المحسوبين على ثورة "تشرين" قد دخلوا البرلمان، سواء من خلال الحزب الوحيد الذي استطاع أن يدخل الانتخابات أو على قوائم الأحزاب والتكتلات القديمة، إلا أن النسبة لم تعدُ أن تكون ضئيلة، لدرجة لم تجمل مساحيقها الوجوه العكرة في الحياة السياسية، ولم تخفِ نتوءات الطائفية والإقصاء الذي حفر آثاره على مر السنوات الماضية في وجه الحياة السياسية العراقية.
رغم كل هذه التغييرات التي يعتبرها شركاء العملية السياسية في العراق جوهرية ونجاحات حققها البعض على البعض، من خلال إعادة تقسيم كعكة مقاعد البرلمان، إلا أن هذا التغيير في النهاية انتهى إلى اللاشيء، حيث نفس الوجوه ونفس الكتل والأحزاب ونفس الأفكار، ونفس الرّشى الانتخابية والوعود المزيفة، فانتخابات من دون منافسة حقيقية وبرامج تنافسية تعني في النهاية اللاشيء بعينه.
ما وراء تظاهرات الحشد وثوار تشرين
في فكر من أنزلهم، يرى قادة ميليشيات الحشد أن تواجد عناصرهم في الشارع سيحقق عدة أهداف، يمكن بها تحصيل المكاسب وحجز بعضها عن غيرهم من منافسين ومناوئين. فظهور عناصر الميليشيات ولو بلباسهم المدني؛ هو إظهار لشعبيتهم ودعم الشعب لهم، ما يصور أنهم ظلموا في النتائج، لا سيما أن أذرعهم الإعلامية وذبابهم الإلكتروني يعزفون حتى الآن ملحمة من ملاحم المظلومية التي يتقنون عزفها.
لكنَّ هدفاً آخر كان في بنك أهداف من دفع عناصر الميليشيات إلى الشارع، وهو إظهار القوة في بلد أزاح قيم التغيير السلمي وبدلها بقوانين الغاب والبقاء للأقوى، فاستعراض القوة الذي يجرى من وقت لآخر هو جزء من إبقاء الحضور الخشن لتلك الميليشيات في أذهان العراقيين، وعدم غياب عرباتهم ذات الدفع الرباعي والمحملة بعناصر الميليشيات المدججين بالسلاح؛ فيجب أن تظل شاخصة في عقل كل عراقي ليعرف موقعه في عراق ما بعد الاحتلال، فلا صوت يعلو فوق صوت قادة الميليشيات وسلاحها، وهو ما وُجه في هذه الحالة للمفوضية العليا للانتخابات وممثلة الأمين العام للأمم المتحدة، التي تعلمت الدرس وباتت تضع ذلك في حساباتها عندما تكتب تقاريرها الأممية.
لكن الهدف الأهم من إنزال عناصر الميليشيات للشارع، الذي قد يخفى على الكثيرين، هو ملء الشارع حتى لا يملؤه ثوار تشرين الرافضون للعملية السياسية وما رشح منها من انتخابات، والمناهضين للميليشيات ولديهم معها ثأر، فتلك الميليشيات التي قتلت مئات الثوار تعلم رفض الثوار لهم، ولأن كل شيء يُستنسخ في العراق الجديد، فإن نزول الميليشيات كان مستنسخاً من تجربة القبعات الزرق الذين استطاعوا قمع الثوار.
نزول الميليشيات جاء في توقيت إعلان نتائج الانتخابات الذي يتزامن مع مرور عامين على اندلاع ثورة تشرين، ما يعني دافعاً أكبر للثوار للنزول للشارع وإظهار العراقي الحقيقي الرافض لتقاسم كعكة الوطن على مائدة المحتل الإيراني.
إن نزول الميليشيات للشارع رفضاً لنتائج الانتخابات والذي قابله نزول الميليشيات المضادة احتفالاً بما تراه نصراً لما حققت في تلك النتائج، وما ينتج عن ذلك من مخاوف من الصدام المحتمل، لا سيما أن الكل يعرف طريقه للزناد، لا يعدو أن يكون اختلافاً على توزيع الأنصبة وصراع على المناصب، لا من أجل الديمقراطية التي بشَّر بها المحتل الأمريكي ولا تأصيلاً لقيم التداول السلمي للسلطة الذي تعلو فيه إرادة الشعب على كل إرادة.
إن ما يحدث في العراق من صراع على نتائج الانتخابات هو أبعد من سجالات الفتح والصدر؛ تتدخل فيه قوى إقليمية ودولية ترسم خطوط نفوذها وتتقاسم خيرات ذلك البلد الطيب، كما تتقاسمه الأحزاب والتيارات والميليشيات الآن في شوارع العراق، على حساب تشرين وشهدائها.
في بداية هذا المقال استعرضنا الصراع الداخلي بين الكتل والأحزاب التي تمثل الذراع السياسية للميليشيات على الأغلب، فما من حزب أو تكتل إلا ووراءه ميليشيا، اللهم إلا تلك الكتلة السنية المحرم عليها حمل السلاح. ومن ثَم فقد توصلنا إلى أن هذا التصعيد الذي تشنه الميليشيات من خلال عناصرها بزيهم المدني مدفوعاً بقرارات اتخذت من سياسيي تحالف الفتح، بعد أن فقد مقاعده في برلمان 2018 الذي أطاحت به ثورة تشرين، ويعني فقدان نفوذ سياسي يعد مورداً لا يستهان به لمدخول مالي يرفد الميليشيات، ما يعني استمرار حيوية هذه الميليشيات وتهافت العاطلين على الالتحاق بصفوفها لتأمين متطلبات حياتهم اليومية، لكن الصراع في حقيقة الأمر يخرج عن تلك المكاسب الآنية المحدودة لأصحاب الطموحات المحدودة في الحدود المحدودة بالمنطقة الخضراء.
دلالات المواقف الدولية على الداخل
في بيان للاتحاد الأوروبي، عبَّر فيه عن مشاركته مجلس الأمن في موقفه المستنكر لتهديد موظفي بعثة يونامي ومفوضية الانتخابات، والتي أطلقتها الميليشيات بعد إعلان نتائج الانتخابات. يأتي هذا الموقف بعد أن هاجم تحالف الفتح، الذراع السياسية للميليشيات في العراق، مجلس الأمن الدولي بعد أن هنأ بنجاح الانتخابات البرلمانية. وعلى الرغم من أن التهنئة بروتوكولية لم تزكِّ أحد الأطراف، إلا أن الفتح يرى أن تلك التهنئة تخص طرفاً بعينه، تأكد نجاحه. وأكد الفتح في استنكاره لبيان مجلس الأمن أنه تفاجأ بالبيان الصادر عن مجلس الأمن قبل حسم الطعون القانونية، على الرغم من الاعتراضات الكثيرة من غالبية الأحزاب والمرشحين.
لم يكن بيان مجلس الأمن في رأي تحالف الفتح إلا شكلاً من أشكال الحرب النفسية التي يرون أنها تُشن عليهم، من أجل تمرير الصدر لتشكيل حكومة تأتي على هوى مجلس الأمن الذي تسيطر عليه أمريكا وحلفاؤها. فذلك الوسواس القهري المسيطر على قادة الفتح كان دافعاً لإبداء الرفض لبيان بروتوكولي لم يحمل تزكية لأي طرف، إلا أن الخطاب الشعبوي المتبنى من قادة هذا التحالف الموالي لإيران، وجد فرصة لإظهار "وطنيته" ضد المحتل الأمريكي، ناسياً ولاءه لطهران التي تخطط وتدفع بل في كثير من الأحيان تقود.
في العاشر من الشهر الماضي، وصل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني إلى بغداد، في زيارة غير معلنة، وعقد فور وصوله عدداً من الاجتماعات مع بعض المسؤولين العراقيين وعدد من الأطراف السياسية؛ أغلبها من الميليشيات الخاسرة لمقاعدها في الانتخابات الأخيرة. وكان الهدف الرئيسي لزيارة قاآني هو تنسيق المواقف بشأن التحالفات السياسية لمرحلة ما بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية، التي لم تكن قد ظهرت حتى تاريخه، لكن المؤشرات قد أظهرت أن خسارة الميليشيات الموالية له تتطلب سرعة العمل على ما ينقذ أعوانه مبكراً.
محاولة اغتيال الكاظمي.. استعراض قوة أم مراهقة سياسية؟
لقد كان قصف منزل رئيس الوزراء في العراق ثمرة لما كان قادة الميليشيات يروجونه لتحصيل مكاسب شعبوية، من أن الكاظمي هو رجل أمريكا في العراق، على الرغم من أن الكاظمي لم يكن ليدخل الخضراء رئيساً للوزراء إلا بتوافق ما يسمى بالبيت الشيعي، ما يعني أن تلك الميليشيات التي تروج لمقولة إن الرجل هو ذراع أمريكية، هي من وافقت على أن يتولى الرجل المنصب، حتى ولو بررت بأن المرحلة كانت تستوجب الخروج من دوائر الاختيار المعهودة منذ 2003 لرئيس الوزراء.
لم يسفر قصف بيت الكاظمي -كما القصف المتكرر للسفارة الأمريكية- عن أي أضرار حقيقية؛ اللهم إلا تكسيراً لزجاج النوافذ وخلع بعض الأبواب. وفيما يبدو أن الكلمة الحماسية التي ألقاها قاآني في قادة الميليشيات عندما زار بغداد أججت حمية الظهور وطلب الدرجات لدى أحد قادة تلك الميليشيات، والذي صرح الصدر بأنه يعرفه ويعرف من قاموا بالعملية. ولعل الناظر إلى خطوة محاولة الاغتيال يحتار في الهدف الذي من أجله اتخذ هذا القرار، وهل هو رد على تصريحات الكاظمي ووزرائه الذين أرادوا ردع عناصر الميليشيات المتجمعين أمام بوابات المنطقة الخضراء، وإظهار أن الدولة حاضرة وستضبط الأمور.. كلمتان لا بد منهما، يعلم قائلهما، قبل متلقيهما، أنهما لذر الملح في العيون، فكان الرد أن قوتنا حاضرة وسلاحنا صاحٍ.
وقد يُرى قرار قصف بيت الكاظمي بأنه "غشم" سياسي، حيث إن المستفيد الوحيد من هذا القصف هو الكاظمي نفسه، إذ إن المحاولة الفاشلة زادته قوة ودفعت إليه الدعم الدولي والإقليمي، ذلك أن العالم مهما تضاربت مصالحه، يجب أن يظهر بمظهر الرافض للعنف، وهو الموقف الذي اتخذته إيران نفسها حيال العملية التي يبدو أنه لم يتم التنسيق بشأنها، حتى ولو كان الكاظمي يستحق القتل برأيها، إلا أن هذه الطريقة تحرجها وتضعف موقفها ومن تنسق معهم. هذا الحادث ركب موجته الصدر، الفائز في الانتخابات، ليظهر أنه ضد الانفلات، وأن دولة ذات سيادة قادمة لتسيطر.. كلمات يحبها الأتباع وتلقى رواجاً لدى الشارع المكلوم منذ سنوات من انفلات السلاح، وقد يتناسى أفعال الصدر لو استطاع إيقاف آلة الموت الميليشياوية، فعدو عاقل خير من عشرة أصدقاء مجانين.
صراع الخارج أبعد من صراع الحشد والصدر
لقد كانت قمة بغداد التي عقدها الكاظمي، الباقي على ولايته حينها أيام، إعلاناً لأوراق اعتماد جديدة كرئيس للوزراء، قمة بغداد التي طبخت في واشنطن وأديرت من باريس، ورأس جلستها فعلياً ماكرون، لم تكن إلا ورقة تحدٍّ من الغرب لإيران، بأن رجلنا سيبقى. القمة كانت بمثابة ترتيب أوراق المنطقة بأكملها، ومحاولة لرسم علاقة جديدة بين إيران وجيرانها الذين طالما اشتكوا من تصرفاتها، واختير العراق ليكون جسر الوصل بين إيران وجيرانها، واختيرت المنطقة الخضراء لتكون لوحة لرسم خريطة علاقات المنطقة، واختير الكاظمي ليكون أداة هذه اللوحة.
علاقة الصدر بالسعودية التي زارها في صيف 2017 لا تزال منطبعة في أذهان الإيرانيين، على الرغم من أن الرجل أراد لعب دور حمامة السلام بين السعودية وإيران، لكنه في النهاية ليس الرجل المناسب في معركة صفرية تروج لها إيران، إذ تود لو كان المالكي هو من يقوم بالمهمة، فالرجل محمَّل بما يكفي تجاه المملكة وسينطق باسم إيران على النحو الذي ترضاه، لذلك فإن الكاظمي يلعب في المربع الذي لعب فيه الصدر من قبل، ويشكلان فريقاً لا ترضى عنه طهران، وإن كان لكل منهما دوره في خطة إيران الاستراتيجية في التعامل مع الملف العراقي.
خمسون يوماً كانت كافية للعب مباراة للعقول والسياسة تتبارى فيها كل من أمريكا وإيران على الرقعة العراقية قبل إعلان النتائج النهائية، وإذا كانت النتائج قد أُعلنت إلا أن المباراة لم تنتهِ. هذه المباراة كانت تجريبية لمباراة أكبر في فيينا حيث تعقد مفاوضات الملف النووي الإيراني، ومن بعيد تقف تل أبيب كورقة ضغط تهدد بضربات موجعة لطهران، وإن كنت لا أجد حقيقة لذلك الصخب، حتى مع الحديث عن تفاهمات لتل أبيب مع أذربيجان لتكون الأخيرة حصان طروادة الذي به توجه تل أبيب ضربة لطهران، إلا أن ذلك مستبعد بنظري أيضاً، والمتاح ضربة لميليشيا موالية لإيران هنا أو هناك.
لكن الحقيقة في كل هذه الصراعات والتداعيات والسجالات التي تدمي القلوب هي أن العراق، الكبير الفاعل في المنطقة صاحب أقوى الجيوش في فترة من الفترات، أصبح مجرد رقعة توجه القوى الإقليمية ضرباتها لبعضها بالوكالة، وأصبح العراقي بفعل حكامه الحاليين مجرد أهداف يصوب عليه كل طرف ليرسل رسالته للطرف الآخر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.