يحدث أن تكون وسط أهلك أو أصدقائك لكنك تجد نفسك في مكان بعيد عنهم، حتى لو حاولت التركيز في حديثهم أو تشاركهم ضحكاتهم، قد تستطيع إقناعهم بأنك معهم، لكنك تعلم علم اليقين أن عقلك وروحك يبعدان عنهم آلاف الأميال، تحاول وتكابد، لكنك في النهاية تستسلم للوحدة التي استوطنتك، تبتعد دون سابق إنذار، وتنعزل عن الجميع، تصنع عالمك الخاص الذي تستمتع فيه وتجد فيه راحتك.
يستغرب منك الكثيرون عندما يجدونك تقضي معظم الوقت وحيداً بغرفتك أو تخرج في نزهة وحيداً، لكنهم لا يعلمون بالراحة النفسية التي تشعر بها، لن نقول إنك تشعر بالسعادة حينها؛ لأنك أحياناً تكون مجبَراً عليها، لكنك تشعر بالسلام النفسي.
قد تملُّ من النقاشات والحديث الطويل، لكنك لا تستطيع كسر قلب أحدهم والانسحاب، تتضجر من الدخول المفاجئ لأحدهم إلى غرفتك، ليس لأنه دخل دون استئذان؛ بل لأنه اقتحم وحدتك.
تشتكي لك أمك من ألم في ظهرها وتعبها خلال اليوم؛ فتُطأطئ رأسك بأنك تأثرت وأنت لم تسمع نصف ما قالته، تحكي لكِ صديقة آخر الأخبار فتبتسمين لها وكأنك ركزتِ فيما قالته رغم أنك لم تهتمي له!
يصبح العالم ضيقاً وأنت مع الناس لدرجة الاختناق، وبقدر هذا الضيق يتسع وأنت وحدك.
تظن أن هذه الوحدة هي مرحلة زمنية من عمرك وستنقضي، وتفكر في لملمة شتات نفسك والعودة إلى الحياة الاجتماعية، لكن هذا الأمر لن ينتهي بهذه السهولة، وربما لن ينتهي.
تختلف الوحدة من شخص لآخر، فهناك من يكون في حالة نفسية عادية شيئاً ما، يجتمع مع أصدقائه، يُجالس أهله، وفجأة يختفي، يسأله صديقه: أين أنت؟ كيف حالك؟ فلنلتقِ؟ فيجيب بكل برود: أنا بخير ويتهرب من باقي الأسئلة! أو أحياناً كثيرة لا يرد، ليس لأنه ليس على ما يرام؛ بل فقط لأنه لا يرغب في الاحتكاك مع أحدهم، ربما يكون بحاجة إلى إجازة مع نفسه فقط، وبعد فترة يعود إلى حياته الاجتماعية كأنه لم يغِب، هذه الوحدة تنعكس جراء تعب نفسي.
وهناك من هو مجبَر على الوحدة؛ لأنه لا يجد مؤنساً له، يعيش الوحدة فقط؛ لأنه لم يعثر على شخص ينتمي إليه أو يُكمله، فيفضل الانعزال إلى أن يجد رفيق روحه، يشعر بأن كل الناس لا تملأ الفراغ الذي بداخله، حتى لو كان موجوداً بين آلاف الناس، ولن يملأ هذا المكان الفارغ بروحه إلا شخص واحد، حتى لو حاول أن يملأه بأي شخص كان فلن يستطيع، أحياناً هذا الرفيق يكون مختلفاً تماماً عنه في كل شيء، لكنه هو الوحيد الذي يفهمه ويكمله. وهنا تكون الوحدة إجبارية إلى أن تجد الروح مسكناً لها فتستقر.
وهناك من يجد راحته فيها، حتى لو كان له ألف صديق، أو متزوجاً وله أطفال، ستجده كلما سنحت له الفرصة يهرب إلى وحدته أو كما يسميها هو عالمه الخاص، وربما أحياناً يأخذ من وقت أسرته وأصدقائه ليُشبع وحدته، ففيها يستطيع الإبداع في عمله وهواياته. أما هنا، فالوحدة اختيارية وهي مصدر سعادة ونشوة لهذا الشخص.
الأهم من هذا كله، أن تعرف كيف تؤنس هذه الوحدة وتنشغل فيها بأشياء تفيد نفسيتك ومستقبلك، وأن تغذي روحك بما ينعشها ويجدد فيها الحياة.
آنس وحدتك بهوايتك المفضلة، أو حاول أن تكتشف هواية جديدة تستطيع القيام بها، تعلَّم لغة جديدة، اكتشف ثقافة بلد آخر، ادرس علوماً لم تدرسها من قبلُ، جرِّب أكلاً كنت تخاف من تذوُّقه، أو سافر، المهم ألا تشعر بأن الوقت الذي تختلي به بنفسك يمر دون أن يحصل فيك أي تغيير.
ولا يوجد هناك من يؤنس وحدتك أفضل من الله، ويغذي الروح أفضل من القرآن، تمعَّن في خلق الله، وأكثِر من العبادات، اختلِ بنفسك وتفكَّر في ملكوت الله من سمات، وسحاب، وجبال، وكل المخلوقات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.