من الأمور التي أحزنتني مؤخراً وفاة المستشرق الألماني المرموق جوزيف فان إس (Josef van Ess)، في يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. ليس بسبب الموت نفسه، لأنه أمر لا مفر منه، ولكن لأنه بعد كل هذه الشهرة والمكانة المرموقة مات في إحدى دور العجزة في مدينة توبنجن بألمانيا.
وجوزيف فان إس (1934-2021) مستشرق ألماني من أصول هولندية. ولد في مدينة "آخن" الألمانية قرب الحدود الهولندية البلجيكية، ودرس العلوم الإسلامية ولغاتها (العربية والفارسية والتركية) في بون وفرانكفورت. وفي سنة 1959 نال درجة الدكتوراه من جامعة بون، بدراسة أنجزها بإشراف أستاذه هيلموت ريتر (Hellmut Ritter)، عن "العالم الفكري للحارث المحاسبي".
ثم حصل على الأستاذية سنة 1964 بدراسة عن "نظرية المعرفة عند عضد الدين الأيجي"، ومن هنا ترجمته لكتاب "المواقف" للأيجي. وبعد سنتين من العمل كأستاذ زائر في جامعة كاليفورنيا والجامعة الأمريكية ببيروت شغل في سنة 1968 كرسي الدراسات الإسلامية واللغات السامية في جامعة "توبنجن" الألمانية خلفاً لأستاذه رودي بارت (Rudi Paret). وخلال العقود الخمسة التالية كان نموذجاً مثالياً للاستشراق الألماني الكلاسيكي ذي النزعة الفيلولوجية أو اللغوية، إضافة إلى قدرة تحليلية يبدو فيها تأثره بتأويلية هانز جيورج جادامر.
وهذا ما يتضح في مؤلفاته التي يدور أغلبها في إطار تاريخ الفكر الديني في القرون الهجرية الأولى، وهي نقطة تخصصه الرئيسية.
نشاط جوزيف فان إس العلمي
وخلال فترة نشاطه العلمي أصدر أكثر من ثلاثين عملاً توزعت بين التأليف والترجمة والتحقيق، وهي الفنون الثلاثة التي برع فيها، واعتاد أن يجمع بينها في مؤلفاته. ففي سنة (1967) أصدر كتابه عن "الجدل التقليدي ضد عمرو بن عبيد" الذي يحوي نصاً للدّارقطني عنوانه "أخبار عمرو بن عُبيد" وقد حققه وترجمه إلى الألمانية. وفي سنة 1971 أصدر دراسته عن "كتب الفرق المعتزلية المبكرة"، والذي يحوي نصين للناشئ الأكبر: "مسائل الإمامة" و"الكتاب الأوسط" أو إن شئنا الدقة ما بقي منه، وكالعادة حققهما ودرسهما وترجمهما إلى الألمانية.
وبعد ذلك توالت الأعمال المهمة للرجل، وزاد الاهتمام الدولي بنتاجه، وقد جاء الاهتمام العربي به متأخراً بعض الشيء. ففي سنة 1975 أصدر كتابه المهم عن العلاقة "بين الحديث وعلم الكلام"، ورغم أهمية الكتاب لم يترجم منه إلا الفصل الأول فقط الذي ترجمه ماهر جَرَّار ونشرته الترجمة بمجلة "الأبحاث" البيروتية سنة 1999. وهي ترجمة ممتازة بالمناسبة، ومن أسف أن ماهر جَرَّار لم يُتم ترجمة الكتاب، ولو فعل لكانت ترجمته نموذجاً في ترجمة فان إس إلى العربية.
ومن الكتب المهمة لجوزيف فان إس كتابه "بدايات علم الكلام في الإسلام" (1977)، وهذا هو عنوان جوزيف فان إس لكتابه، ومع ذلك هناك من يترجم العنوان عن الترجمة الفرنسية إلى "بواكير اللاهوت الإسلامي". ويحتوي الكتاب إلى جانب الدراسة على رسالتين من القرن الهجري الأول كتبتا في "الرد على القدرية"؛ الأولى لمحمد بن الحنفية ويحتمل تبعاً لفان إس أنها كتبت حول سنة 80 هجرية، أما الرسالة الأخرى فمنسوبة إلى عمر بن عبدالعزيز، ويحتمل أنه أملاها أو كتبها حول سنة 100 هجرية أي عندما كان خليفة.
ولجوزيف فان إس كتب أخرى عديدة من هذه النوعية، أي تحتوي بداية على دراسة بالألمانية، ثم ترجمة لأحد النصوص المهمة والمبكرة ثم تحقيق للأصل العربي. وفي هذه الكتب يهتم فان إس بدراسة النصوص التي يكتشفها أو يحققها بدراسة فيلولوجية ذات منحى تأويلي؛ أي أنه يدرسها في ضوء علاقاتها ببيئتها وفي سياق تطورها. وهو يقدم في كل دراسة من هذه الدراسات نموذجاً رصيناً يمكن الاقتداء به للتحري العلمي. وظني أن اهتمامه بمراحل تطور الأفكار الإسلامية المبكرة كالقدر والإرجاء والجبر راجع إلى ميوله التأريخية وقدرته التأويلية على التحليل والاستنتاج، وهو يعتمد في كل هذا على معرفة أصيلة، متراكمة، تتميز بالسعة والشمول، وهذا ما يمكن تبيّنه من هوامشه وثبت المصادر والمراجع.
"في الظل"
وخلال فترة نشاطه العلمي نشر جوزيف فان إس عدداً ضخماً من الكتابات القصيرة التي جمعها (هاينريش بيسترفيلد) ونشرتها بريل سنة (2018) في ثلاثة مجلدات (2742 صفحة). ومن يطالع هذه المجلدات سيكتشف أن ما تحويه كان بمثابة تمهيد وإعداد لعمله الضخم عن "علم الكلام والمجتمع" (Theologie und Gesellschaft).
ويمكن أن أستثني من هذا فقط نصوص السيرة الذاتية، وأهمها في رأيي نصان وردا في المجلد الأخير (القسم الحادي عشر)، يدور أولهما حول دراسته الجامعية من خلال مراجعته لدفاتره، ويدور آخرهما حول فترة الدكتوراه. والعنوان الفرعي لهذا النص الأخير: "ذكريات عن العصر الحجري للاستشراق"، ذو دلالة واضحة، ويذكر بالكتاب الأخير لجوزيف فان إس عن سيرة أستاذه هيلموت ريتر الذي صدر سنة 2013، تحت عنوان (Im Halbschatten)، الذي يمكن ترجمته بـ"في الظل". فكأن فان إس قد بدأ حياته العلمية بكتاب تحت إشراف أستاذه هيلموت ريتر وأنهاه بكتاب عنه، وهو بالمناسبة من الكتب الجديرة بالترجمة إلى العربية.
كل هذا كان كما سبق بمثابة الإعداد والتمهيد لعمل جوزيف فان إس الرئيسي والضخم: "علم الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة" (1991- 1997). والكتاب لمن لا يعرف بمثابة كنز بحثي مهم وحاسم بالنسبة لتاريخ الفكر الإسلامي المبكر. وفيه يقدم جوزيف فان إس صورة تاريخية مضيئة عن الحيوية الفكرية الأصيلة التي سادت تلك الفترة التأسيسية والحاسمة من تاريخنا الفكري.
وقد وصفت الكتاب بأنه عمل ضخم "معنى ومبنى"؛ لأنه ومن حيث الحجم مكون من ستة مجلدات (3760 صفحة) صدرت فيما بين سنة 1991 وسنة 1997. وقد طالعت الكتاب للمرة الأولى سنة 1998 أي بعد اكتمال صدوره ولاحظت آنذاك أن الكتاب متميز في عنوانه وموضوعه وفي الفترة الزمنية التي يتناولها. فالعنوان من منظور تاريخي اجتماعي يعني أن "علم الكلام"، وهو ما نسميه الآن بعلم أصول الدين أو علم العقيدة، مرتبط بقضايا المجتمع الإسلامي التي نتج عنها وأثر فيها. ومن هنا يعامله فان إس كمنتج ثقافي لسياقه التاريخي الاجتماعي. ومن هنا أهمية التحديد الزمني لفترة الدراسة، وهي فترة القرون الثلاثة الأولى للهجرة، التي اتسمت بالصراعات السياسية والاجتماعية المتداخلة وذات الأبعاد التأصيلية.
وقد ازدهر علم الكلام خلال هذه الفترة، وتميز خلالها بالفاعلية الشديدة في الإطارين الاجتماعي والسياسي، فلم يكن مجرد تأمل نظري مقصور على صفوة من المفكرين، بل كان علماً محلياً أصيلاً نتج عن الصراعات الاجتماعية والسياسية التي سادت المجتمع الإسلامي آنذاك، ولذا مارسته أغلب الفرق الإسلامية باستثناء الحنابلة الذين حرموه وطاردوا أنصاره، فانزوى وفقد مكانته في السياق الإسلامي، ولم يعد له تأثيره السابق الذي طال مختلف مناحي الحياة.
وقد ترجم المجلدان الأولان من "علم الكلام والمجتمع" إلى العربية، ويجري حالياً ترجمة الأربعة الأخرى التي ستصدر أيضاً عن منشورات الجمل ببيروت. وقد طالعت ما ترجم وهو جيد ولا بأس به، وإن كان يحتاج إلى مراجعة أخرى من متخصص عارف بأدبيات الاستشراق في مجال علم الكلام. وهذا ما يحتاج توضيحه لمقال آخر، سنهتم فيه إن شاء الله بعرض أوسع لبنية الكتاب وكيفية تركيبه وأهم الموضوعات الكبرى التي تناولها. وعندها يمكن أن نتكلم أيضاً عن رأينا المفصل فيما تُرجم من الكتاب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.