الحديث اليوم عن دور تركي في لبنان يترجَم بطريقة تقاس على أسس العمل الإقليمي التاريخي للدول في الداخل اللبناني المبني على علاقة مع الطوائف، وتاريخياً ارتبط الوجود التركي بالدرجة الأساس مع السُّنة، لذلك من الطبيعي عند الحديث عن أي دور تركي هنا، أن تتوجه الأنظار نحو سُنة لبنان، وإلى مناطق وجودهم خاصة في شمال لبنان وتحديداً طرابلس، التي يكثر الحديث عن وقوعها على خط السياسة الخارجية التركية، ولكن السؤال الأبرز اليوم هو: ماذا يتوقع السُّنة من تركيا، وكيف تنظر تركيا إلى لبنان؟
تركيا والسعودية في لبنان.. تنافُس أم تنازُل عن ساحات؟
شكَّل الموقف السعودي بالانكفاء عن الساحة اللبنانية عامة، وعن دورها الرعائي للطائفة السنية في لبنان بشكل خاص، مدخلاً لكثير من التحليلات السياسية في لبنان بحثاً عن البديل. ففي "لعبة الطوائف" يُعتقد أن غياب الرعاية الدولية عن طائفة ما بمثابة انتحار لتلك الطائفة، سياسياً.
وفيما يغيب اللاعبون التاريخيون للدور الرعائي للسُّنة في لبنان، فالمصريون منهمكون في شؤونهم الداخلية، ويغيب العراقيون الغارقين بحروبهم ومستنقع السياسة الداخلية، وسوريا مختطفة كما يراها غالبية السُّنة وهي بالأصل بعيدة عن المزاج السني الشعبي، ما فرص توجُّه الأنظار نحو تركيا؟
فهي الدولة التي اعتبرها سُنة لبنان تاريخياً امتداداً للخلافة أيام السلطنة العثمانية، فانصهر سُنة لبنان في بنيتها السياسية وكانوا موظفين ومسؤولين بمؤسسات السلطنة وتعلَّموا في جامعتها وتحدثوا لغتها، ووصل كثير منهم من بلاط الباب العالي، واليوم أمام تعاظم الدور الإقليمي لتركيا، ومع إعادة ارتباطها التاريخي بالإسلام وتغنِّيها بأمجاد السلطنة العثمانية، كان من الطبيعي أن تدغدغ أحلام السُّنة في بلاد الشام وفي لبنان كامتداد لسرديتهم التاريخية وارتباطهم بأمجاد السلطنة، وشعورهم بارتباط مع الدور التركي المتجدد.
الأحلام الكبيرة
ينقسم سُنة لبنان إلى مجموعات كثيرة، والطائفة السنية تاريخياً أكثر الطوائف مزاجية وتحكمها تقلبات عاطفية، وتبقى وحدها الانتخابات هي القادرة على رسم صورة واضحة، لقياس توجهاتها السياسية اليوم.
ينتظر بعض السنة في لبنان من تركيا الكثير، أي تأدية دور يشبه الدور السعودي التاريخي في لبنان، فيتوقعون دعماً مادياً ضخماً، مع اهتمام بالمرجعية الدينية والعمل على تقويتها، إضافة إلى بناء حزب سياسي منظم يستطيع أن يخوض الانتخابات النيابية وقادر على الحصول على كتلة نيابية وازنة في المجلس النيابي، إضافة إلى القدرة على تطبيق سياسة تشبه سياسة حزب "العدالة والتنمية" لكن بنسخته اللبنانية البعيدة عن اللون الأيديولوجي؛ وهو ما دفع بعض السياسيين الطامحين، خاصة من شمال لبنان وطرابلس تحديداً، إلى زيارة تركيا، محاولين استطلاع البوصلة التركية، ومحاولة منهم للتقرب من مراكز القرار، عارضين عليهم أفكارهم وأحلامهم، إضافة إلى نقلهم أصوات السُّنة المطالبين بدور تركي حقيقي في السياسة اللبنانية.
السياسة التركية.. العقل قبل العاطفة
عكس أحلام وأفكار جزء من السُّنة، ينظر الأتراك بواقعية كبيرة إلى السياسة اللبنانية، يعملون على جمع التفاصيل، ويدركون خبايا الأمور، تصل إليهم جميع الأمنيات، لكنهم يميلون إلى تقديم العقل على العاطفة. إذ أمامهم ملفات كبيرة وضخمة في المنطقة تتمدد من بلاد الأفغان وأذربيجان مروراً بالعراق وسوريا، نزولاً نحو الخليج العربي، مروراً بمصر، وصولاً إلى قبرص واليونان، إضافة إلى مشكلة اقتصادية تهز نظامهم السياسي، وعليه يضع المسؤولون الأتراك المرتبطون بملفات المنطقة تلك المعطيات قبل أن يأتي الجواب بأنهم بالطبع لن يحلوا محل السعودية، وهم ليسوا في وارد الدخول إلى مستنقع السياسة اللبنانية، خاصة من باب دور رعاية الطوائف.
لقد تعلَّموا من التجربة السعودية في لبنان ويدركون جيداً التكلفة المادية والمعنوية التي يمتصها الثقب الدودي اللبناني، إضافة إلى ذلك يعلمون أن دخولهم إلى الساحة اللبنانية من باب السُّنة استجرار إلى كباش مع مجموعة من الأطراف الإقليمية، هم في غنى عن خوض معارك معهم تكون نتيجتها أقل من تكلفتها، فيضيع تركيزهم في المتاهة اللبنانية.
النموذج الجديد للتجربة التركية في لبنان
يحسم المسؤولون الأتراك الجدل بأن عدم حضورهم بالدور الذي يحلم به بعض اللبنانيين- السُّنة منهم خاصة- لا يعني أنهم سيكونون بعيدين، بل سيحضر الملف اللبناني ضمن سياساتهم، لكن بشكل ونموذج جديدين في الحياة السياسية اللبنانية.. سيحاولون التعاطي مع جميع الأطراف اللبنانية؛ لتقديم خبرتهم للشعب اللبناني ككل بجميع طوائفه وليس لطائفة على حساب بقية الطوائف، كما أنهم مستعدون لنقل تجربتهم في مجموعة كبيرة من الملفات، خاصةً أنهم يتفاخرون بأن أجزاء كبيرة من إدارات الدولة اللبنانية اليوم مازالت تستعمل مباني وأموراً ترتبط بالسلطنة العثمانية.
وهم اليوم قادرون على تقديم دور كبير في إدارة ملف الكهرباء وتنظيمه، إضافة إلى المساهمة في تطوير المرافئ أو أقله أحد المرفأين (بيروت وطرابلس)، كما يحضر ملف النقل العام بقوة، خاصةً أن للأتراك نموذجاً يحتذى به من حيث تنظيمه وبناؤه، وعليه يُعمل خلال الفترة القادمة، على تقديم خطط عملية لإعادة تشغيل القطار وخلق نظام نقل عام يشبه التجربة التركية المتطورة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.