أسالت قرارات التطبيع التي أقدمت عليها مجموعة من الدول العربية والإسلامية وغيرها الكثير من المداد، وخلقت العديد من الإشكالات وتضارب الآراء، والحال أن الجدل ليس حول قدسية القضية الفلسطينية من عدمه (فقدسية القضية أمر مفروغ منه)، بل حول مصداقية التطبيع ودواعي الأخذ به، وعليه فإن الأسطر القادمة هي محاولة لتقريب الآراء التي تدافع عن القضية الفلسطينية من خلال تحديد منطلقاتها من جهة، والسعي لإبراز بعض نقاط التقاطع التي قد تُسعف في فهم أسباب وحدود الاختلاف بين موقف الشعوب والمنطق الدولتي للأنظمة وخلفيات إقبال هذه الأخيرة بهرولة أو بتروٍّ على تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي كجهة ثانية. ثم الحديث عن جدوى المطالب المناهضة للتطبيع ومكامن القصور فيها كنقطة أخيرة. أملاً في أن تكون هذه الجوانب التفكيكية الثلاثة قد تضمنت بعض معالم الجِدَّة ضمن الموضوع المثار.
منطلقات الدفاع عن القضية الفلسطينية
تتعدد منطلقات الدفاع عن القضية الفلسطينية تبعاً لما هو ديني أو قومي أو إنساني.. ويمكن إجمال بعضها على النحو التالي:
- المنطلق الإنساني للدفاع عن القضية الفلسطينية
ما يميز هذا المنطلق هو كونيته، فالدفاع عن القضية الفلسطينية من منطلق إنساني يتجاوز حدود الدين والعرق، والجغرافيا. غير أنه في ذات الوقت يساوي بين القضية الفلسطينية وقضايا باقي الدول والشعوب التّواقة للتحرر عبر العالم دون تفريق ديني أو عرقي؛ وبذلك تكون القضية الفلسطينية مثلها مثل باقي القضايا الإنسانية في مصاف واحد مع تغير في الأوضاع. والأخذ بهذا المنطلق قد يكون بشكل فردي أو جماعي، في شكل هيئات أو منظمات أو أحزاب. ومن ذلك أن تجد بعض المنظمات اليهودية مناهضة للاحتلال الصهيوني.
- المنطلق الديني للدفاع عن القضية الفلسطينية
حتى وإن تعددت أبعاده فسيظل هذا المنطلق أحد مصادر الزخم الذي تحظى به القضية الفلسطينية؛ إذ يحمل في طياته ذلك البُعد الديني- الإسلامي والمسيحي واليهودي- لفلسطين بشكل عام؛ فالمسجد الأقصى لدى المسلمين هو أولى القبلتين وثالث الحرمين مصداقاً لقوله عز وجل في الآية الأولى من سورة الإسراء: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير". كما أن كنيسة المهد ببيت لحم تعد مكاناً مقدساً لدى المسيحيين، فهناك ولد اليسوع عيسى عليه السلام حسب بعض التفسيرات المسيحية والإسلامية، وبالنسبة لليهود فحائط البراق هو أيضاً من الأماكن المقدسة.
إن المنطلق الديني يحيد بشكل أو بآخر عن منطق السياسة والقانون الوضعي، فلا يؤمن بسلام مع إسرائيل ولا يعترف بأي حدود للكيان الاسرائيلي؛ إذ إن اليهود وفق التاريخ الوقائعي للمسلمين قد عرفوا بعدم صدقهم ونقضهم للعهود وغياب تام للثبات، وفي ذلك مصادر كثيرة (وثيقة المدينة على سبيل المثال) وهو الطرح الذي أقرته الهيئة العالمية للعلماء المسلمين، كما اعتَبرت فلسطين أرضاً للأجيال المسلمة، إلى جانب تحريمها زيارة دولة الإحتلال وإن كان ذلك بذريعة الصلاة في المسجد الأقصى، و قد اتخذت الكنيسة موقفاً مشابهاً؛ حيث اعتبرت زيارة المقدسات الدينية المسيحية بالأراضي المحتلة وبتأشيرة إسرائيلية أمراً غير جائز.
والجدير بالذكر أنه لا يمكن بأي شكل من الأشكال تجاوز البُعد الديني للقضية الفلسطينية فدولة الاحتلال هي الأخرى ذات منطلق ديني وقومي؛ وفقاً لقانون يهودية الدولة الذي اعتمده الكنيست سنة 2018، فالثابت أن اليهود يعتبرون أنفسهم فوق كل الأعراق "شعب الله المختار" وأن الرب هو من منحهم أرض فلسطين.
- المنطلق القومي العربي للدفاع عن القضية الفلسطينية
وهنا نشير إلى مفهوم العروبة الذي يعبر عن وحدة الشعوب العربية التي تشترك في التاريخ والجغرافيا والثقافة والمصير المشترك، فالقومي وإن كان يعيش في ظل دولة وطنية فإن ذهنه يعيش في دولة- يسودها التسامح الديني- تمتد من المحيط إلى الخليج، والقضية الفلسطينية من منطلق قومي هي قضية وطنية وجزء لا يتجزأ من الوطن العربي. والجدير بالذكر أن المنطلق القومي والسعي نحو الوحدة كان أيضاً شريعة لبعض الأنظمة العربية غداة تحررها كالناصرية والبعثية. وعلى ذلك تغنى الشعراء العرب، ومن ذلك قول فخري البارودي:
بلادُ العُربِ أوطـــــــــــــــاني
مــــنَ الشّـــــــــــــامِ لبغدان
ومن نجدٍ إلى يَمَــــــــــــــــنٍ
إلى مِصــــــــــــــرَ فتطوانِ
ومن الأبيات التي اقتبسها القوميون عن بعض الشعراء العرب نذكر أبياتاً لصفي الدين الحلي؛ إذ يقول:
سلي الرماح العوالي عن معالينا واستشهد البيض هل خبا الرجا فينا
بيض صنائعنا سود وقائعنا خضر مرابعنا حمر مواضينا
زد على ذلك أن أرض فلسطين تعتبر موطناً للعديد من الشعوب المتعاقبة والغزاة والإمبراطوريات قبل نشوء الدولة الحديثة ويمكن اختزال بعض منها في أبيات من قصيدة "في القدس" للشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي:
أُمرر بها واقرأ شواهدَها بكلِّ لغاتِ أهلِ الأرضِ
فيها الزنجُ والإفرنجُ والقِفْجَاقُ والصِّقْلابُ والبُشْنَاقُ
والتتارُ والأتراكُ، أهلُ الله والهلاك، والفقراءُ والملاك، والفجارُ والنساكُ
فيها كلُّ من وطئَ الثَّرى
- المنطلق المشترك
فهو قد يشمل كافة المنطلقات سالفة الذكر أو اثنين منها على الأقل، فالمسلم والمسيحي العربي قد ينظر للقضية الفلسطينية ببعد إنساني وديني وقومي، أما المسلم الأعجمي أو المسيحي الأعجمي فينظر إليها ببعد إنسانيّ ديني.
بعد العروج على كافة هذه المنطلقات يتضح إذن أن التطبيع وإن كان معطى ثابتاً، فإن فهمه يتخذ عدة أبعاد تختلف باختلاف زوايا النظر (الدين، العرق، الإنسانية … ).
إذا كانت هذه منطلقات الشعوب للدفاع عن القضية الفلسطينية، فما المنطلق الذي تعمد إليه الأنظمة في تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني؟
الرؤية الدولية للتطبيع (المنطلق السياسي)
المنطلق السياسي هو بالكاد ليس للدفاع عن القضية الفلسطينية بل للتعامل معها، وهذا المنطلق تنفرد به الأنظمة، ويبقى في الأخير هو المحدد باعتبار أن السياسة تشكل النطاق المركزي للدولة الحديثة "فالدولة ليست هدفاً من الأهداف، بل ذلك الهدف الذي يمكن التضحية بالأهداف من أجله" فهي أضحت تختص ببسط سلطتها وسيادتها، وتوفير الأمن لمواطنيها في حدود مجالها الجغرافي.
إن منطق الدولة الوطنية يتجاوز الدين تارة ويستغله تارة أخرى، كما ويستبدل القومية العرقية بقومية وطنية، وفي كثير من الأحيان يقذف بالمبادئ الإنسانية عرض الحائط، وفي أحيان أخرى تؤثر عليها الأحداث الخارجية والمعطيات الدولية.
إن اصطفافات الدولة الوطنية لا تستند إلى ما هو أخلاقي إنساني أو ديني، بقدر ما تقوم على ما هو اقتصادي وسياسي، وعن مثل هذا يقول كارل شميت "إن الشرير أخلاقياً، والضار اقتصادياً والقبيح جمالياً ليس بالضرورة عدواً، كما أن الخير أخلاقياً والجميل استاطيقياً والنافع اقتصادياً ليس بالضرورة صديقاً بالمعنى النوعي (أي السياسي) للكلمة" وهذا منطق الدولة.
من جانب آخر، فتطبيع العلاقات الإسرائيلية العربية هو غاية دولة الاحتلال، لكن كيف يمكن تفسيره من وجهة نظر الأنظمة العربية والإسلامية؛ هل يمكن اعتباره غاية لبعض الأنظمة أم أنه نتيجة للضغوطات السياسية؟ وإن كانت هذه الأخيرة فما هي طبيعة هذه الضغوطات: هل هي ضغوطات ذات طابع عام وتمس النظام العام للدولة، أم أنها ضغوطات تمس النخبة الحاكمة ومصالحها؟ فكيف يمكن التوفيق بين مواقف الشعوب وقرارات الدول؟
فجوات التطبيع
الواضح إذن أن التحولات الجيوسياسية بدأت تكرس مفهوم الدولة الوطنية لدى الأنظمة العربية والإسلامية عكس ما كانت عليه إلى حدود سبعينيات القرن الماضي. في حين أن شريحة عريضة من شعوب هذه الأنظمة ظلت وفية لمنطلقاتها الدينية والعرقية، وهو ما يفسر عمق الفجوة بين الأنظمة وشعوبها- خصوصا عندما يتعلق الأمر بالقضايا العربية والاسلامية- ويجعل من منطق الشعوب عكس منطق أنظمتها.
غير أنه إذا كانت الأنظمة ديمقراطية بامتياز لا يمكنها بشكل من الأشكال أن تأخذ بقرارات ليس لها أي سند شعبي، وليست من الشعب بالأساس، فالقرارات السيادية لدول العالم النامي لا تمثل مواقف شعوبها على أية حال. فهي أنظمة سلطوية متخفية، تحتكر القرار وتمارس الإقصاء السياسي تحت ظل تعددية شكلية، وبرلمانات موالية، وهياكل لأحزاب سياسية.
إن رفض قرار التطبيع مع الكيان الإسرائيلي أو أي قرار آخر لا يستند لمشرعية شعبية يتطلب أولاً وقبل كل شيء السعي لإعمال حكم القانون وتعددية الرأي، ومسارات واضحة لاتخاذ القرار، وفضاء حر وعام. آنذاك يمكن للمطالب الأخرى أن تتجاوز خوالج النفس، وصدى الحناجر، ومداد اللافتات لتتبلور وفق قرارات رسمية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.