أخذت مأساة المهاجرين من دول الشرق الأوسط ومعظمهم من المسلمين أبعاداً مأساوية بعد وقوعهم في الفخ (البيلاروسي-البولندي)، تمثّل في رفض بيلاروسيا بقاءهم على أراضيها وهي دولة لا تنتمي للاتحاد الأوروبي، وعدم سماح بولندا عبورهم لأراضيها، وهي دولة تنتمي للاتحاد الأوروبي "أرض الأحلام".
ويعلم الجميع ظروف الأجواء الباردة جداً في الغابات والأحراش بين البلدين، حيث بلغ عدد المهاجرين العالقين هناك إلى وقت كتابة هذه السطور أكثر من أربعة آلاف شخص من دول الشرق الأوسط بين رجل وامرأة وطفل، منهم أحد عشر شخصاً فقدوا حياتهم، فضلاً عن التهكم والسخرية من هؤلاء البشر، عندما صرَّح الرئيس البيلاروسي بأنهم يستطيعون التوجه غرباً إذا استطاعوا المشي.
ولن ندخل في المتاهات السياسية بين البلدين التي فاقمت هذه المأساة، ولكننا سنتناول جانباً اجتماعياً ودينياً من داخل المجتمعات الأوروبية التي صارت تيارات عديدة فيها تقف بشدة ضد هذه الموجات البشرية المتدفقة إلى أوروبا، التي صارت تغير من صورة المجتمع الأوروبي النمطية كما يريد الأصوليون البيض بدون رتوش أخرى، وخاصة مع بروز الظواهر الإسلامية بوضوح داخل أعداد لا يستهان بها من هؤلاء المهاجرين.
زيمور.. النموذج المرعب
ويعتبر الكاتب الفرنسي إريك زيمور مثالاً صارخاً وصوتاً مدوياً تتبعه ملايين الأصوات في فرنسا وأوروبا في تصديه للمهاجرين المسلمين إلى أوروبا الغربية عموماً وفرنسا خصوصاً.
والغريب أن إريك زيمور نفسه ينحدر من عائلة يهودية مهاجرة من الجزائر أيام الاحتلال الفرنسي ومازال على ديانته!
وزيمور كاتب وصحفي مشهور ومقدم برامج تلفزيونية ناجح ولد عام 1958، ويطمح لدخول الانتخابات الرئاسية الفرنسية في أبريل/نيسان من عام 2022، منافساً للسيد ماكرون، الذي أكد مساعي حكومته في محاربة ما يسميه "بالتطرف الإسلامي الأسود".
والغريب أن هذا الشخص الذي يحمل اسماً فرنسياً ولقباً عائلياً يهودياً-جزائرياً، قد سبق ماكرون في طروحاته، ومن المنادين بمنع اسم "محمد" كاسمٍ للمواليد المسلمين عملاً بقانون (1803)، الذي كان قد أصدره نابوليون بونابرت بشأن الأجانب، وإجبارهم على اختيار أسماء فرنسية لأبنائهم، إلى أن أُلغي القانون عام 1993، فهل المسألة هي عقدة تتكون من إرث يهودي قديم، أم يريد السيد زيمور تمرير آرائه تحت غطاء مسيحي فرنسي قومي؟
والحقيقة أن معظم المهاجرين ينتقلون من مجتمعات محافظة إلى مجتمعات منفتحة كل الانفتاح، خصوصاً فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية والعائلية وغياب دور الدين، ما يسبب تناقضاً وازدواجية لشخصية المهاجر الشرقي وخصوصاً المسلم.
وفي هذا الخضم نشر زيمور كتاباً بعنوان "الانتحار الفرنسي"، وآخر بعنوان "فرنسا لم تقل كلمتها النهائية"، وقد حقق كتابه الأخير مبيعات تجاوزت 450 ألف نسخة وتُرجم لمعظم اللغات الأوروبية، بعد أن لاقى نجاحاً فائقاً بين أنصاره.
ويطرح زيمور أفكاره المعادية للمهاجرين في كتبه ولقاءاته التلفزيونية علانية، واضعاً الحرية والليبرالية وراء ظهره، فهو يدعو إلى ترحيل ملايين المهاجرين إذا اقتضت الحاجة، ناسياً أو متناسياً أنه من عائلة مهاجرة، ويدعي أن المهاجرين المسلمين يشكلون شعباً منفصلاً داخل الشعب الفرنسي قد يجر البلاد إلى حرب أهلية مستقبلية.
وزيمور، هذا الشخص الساعي نحو الرئاسة تحت مظلة أزمة المهاجرين يشكل ظاهرة سياسية واجتماعية وفكرية كما يقول الكاتب ميشال أبو نجم، في مقال له حول الموضوع في جريدة الشرق الأوسط اللندنية، "حيث بدأت الأصوات تتعالى بإيقاف هذه الهجرة ولأي سبب كان، ويضع في كتاباته مؤشرات متطرفة لمعالجة الخطر الإسلامي داخل المجتمعات الأوروبية، حيث يكمن الخطر في التغير الديموغرافي والثقافي والحضاري داخل المجتمعات المسيحية -حسب تعبيره- وإن مرتكزات هذه الحضارة هي الإرث الإغريقي-اللاتيني المتداخل مع المسيحية، وهؤلاء المهاجرون يمثلون الثقافة الإسلامية التي تشكل خطراً داهماً على هذا الإرث كقنبلة موقوتة من الداخل! لا بد أن تنفجر في يومٍ ما".
وينبه السيد زيمور إلى أنه مع انخفاض نسبة المواليد في عموم أوروبا وفرنسا، الذي بلغ حداً مخيفاً نتيجة إعراض الناس عن الزواج وتكوين العوائل، فإن فرنسا ينتظرها مستقبل مثل مستقبل دول العالم الثالث بازدياد المواليد من المهاجرين المسلمين بالذات.
وفي غمرة طروحاته العنصرية المبالغ فيها إلى حد الاشمئزاز، فإنه يطرح مبدأ "الاستبدال الكبير"، فيقول إن البرقع حل محل الرأس والوجه المكشوفين، واللحم الحلال محل الملحمة الفرنسية التي تبيع لحم الخنزير، والثوب الإسلامي محل الميني جيب، وهذا ما يجب التصدي له بقوة وحزم.
وفي إحدى مقابلاته التلفزيونية صرّح زيمور بأن الظاهرة الإسلاموية أخطر من النازية والفاشية، وأن أهل أوروبا الأصليين قد فقدوا الثقة بمستقبلهم، وهو طرح شديد الغرابة ولا يؤدي إلا لتفاقم الأزمات واختلاقها.
ويقول في مكان آخر، إن على عاتقه مهمة وطنية بدايتها التوعية والتنبيه من آثار "الراديكالية الإسلاموية المدمرة التي تهدد بالقضاء على قلب الحضارة والثقافة الفرنسيتين".
ويضيف في مكان آخر أنه يجب العمل على وقف تيارات الهجرة وبكل السبل، ووضع حد لقوانين لمّ الأُسر للمتفرقين بين أوطانهم الأصلية وأوطانهم الجديدة، والتوقف عن انتقاد "عنف الشرطة" في وسائل الإعلام، وإعطائهم حق الدفاع عن النفس، أي استعمال العنف مع المهاجرين!
وذهب الى أبعد من ذلك في تفضيل النازية على الإسلام رغم أن اليهود قد أُبيدوا على أيدي النازيين، وهو طرح شديد الغرابة.
أما وزير الداخلية الفرنسي فقد صرح بأن المواظبة على الصلوات الخمس ووجود أثرها على الجبين من أثر السجود وإطلاق اللحية والممارسة الدينية المكثفة خلال شهر رمضان من علامات التطرف الذي تحاربه الحكومة!
الأزمة أعمق من ذلك..
إن أزمة المهاجرين العالقين في مصائد الدببة ماهي إلا الجزء الطافي من جبل الجليد العائم، والتي لا تمثل في أحسن الأحوال إلا حوالي 1% من المشكلة-المأساة التي بدأت تتفاقم، بازدياد أعداد المهاجرين طردياً مع حجم الاضطرابات في بلدانهم، وبإحجام الدول الأوروبية عن استقبالهم، بمنع دخولهم للقارة العجوز التي بدأت هويتها تختفي باضطراد كما يعتقد كثير من سكانها، وصارت الهوية الإسلامية جزءاً أساسياً لهذه المشكلة كما يعتقد اليمينيون المتطرفون، أو على الأقل صار المهاجرون المسلمون عاملاً مساعداً في اختفاء هذه الهوية، ومادة أساسية في الصراع السياسي والاجتماعي داخل الدول الأوروبية وفيما بينها، حسب رأي اليمينيين المتطرفين.
إن المسألة في غاية التعقيد، ويجب على العالم تداركها، سواء أكان المهاجرون مسلمين أو من أي ديانة أُخرى، فالبحار صارت قبوراً لمئات الشباب الباحثين عن نسمة في حياة يعتقدون أنها الأفضل بلا إهانات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.