تستمر الاتصالات والمشاورات الجارية لإيجاد صيغة وتسوية لإعادة الحكومة إلى الانعقاد في ظل المساعي الفرنسية لحسم استقالة قرداحي قبيل زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى دول الخليج، وتحديداً المملكة العربية السعودية، فيما الأجواء تؤكد أن كل المحاولات تستمر في الدوران ضمن حلقة مفرغة، حيث لم تحقق تقدماً على مستوى معالجة أزمة التحقيق في قضية مرفأ بيروت ولا تقدمت على مستوى تأمين عودة جلسات مجلس الوزراء إلى الانعقاد.
في الوقت الذي حضر فيه رئيس الحكومة والوزراء المختصون جملة من الملفات والقضايا ذات البعد الإصلاحي، وهم يستمرون في موازاة البحث الجاري مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتصطدم كل هذه الملفات بحقيقة ضرورة انعقاد مجلس الوزراء لإقرارها.
بالمقابل أطلق رئيس الجمهورية ميشال عون، في زيارته الأخيرة لدولة قطر، جملة من المواقف اللافتة، أهمها موقفان: إعلانه العزوف عن توقيع تعديل مرسوم ترسيم الحدود البحرية، معتبراً أن لبنان في حال تفاوض، ولا يريد تعيين حدوده من جانب واحد، بل يفضل نجاح المفاوضات، وتعود مواقف عون نتيجة شعوره بجدية المفاوضات، واحتمال اقتراب التوصل إلى اتفاق مع إدارة الرئيس جو بايدن بالملف.
وإذا لم يكن الاستعجال قائماً حتى الآن، فإن هذا الموقف ينطوي على استعجال إنجاز الاتفاق، الذي يعتبره عون أمراً مهماً جداً، وقد يشكّل متنفساً أساسياً للبنان في المرحلة المقبلة، وورقة سياسية هامة يمسك بها، فتجعله قادراً على التفاوض في ملفات عدة أهمها رفع العقوبات عن صهره جبران باسيل وتأمين صفقة انتخابه رئيساً للجمهورية.
والأكيد أن لا أحد قادر منذ اليوم على التكهن بطبيعة السيناريو الذي سيحكم المرحلة المقبلة، فثمة العديد من الاحتمالات الممكنة نظراً لتزامن استحقاقين أساسيين، من شأن حسم أي منهما، سلباً أو إيجاباً، أن يأخذ الأمور باتجاه منحى مختلف.
والبداية ستكون طبعاً من خلال تحديد مصير الانتخابات النيابية، إذ إنّ إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، سواء في مارس/آذار أو في مايو/أيار، يعني أنّ الحكومة ستتحوّل لحكومة تصريف أعمال. وسيكون الاتفاق على حكومة بديلة مسألة معقّدة جداً، لكونها حكومة الشغور الرئاسي بصلاحيات استثنائية.
أما في حال التمديد لمجلس النواب وإرجاء موعد الانتخابات لما بعد الاستحقاق الرئاسي، فهذا يعني أنّ حكومة نجيب ميقاتي ستكون الحكومة التي ستتولى مهام رئيس الجمهورية، وهذا ما أشار إليه عون، حين قال إنّ الدستور اللبناني لحظ إمكانية حصول الفراغ لأي سبب كان، ونص على أنّ مجلس الوزراء يمارس مجتمعاً صلاحيات الرئيس إلى حين انتخاب رئيس جديد من قبل مجلس النواب.
وتأتي مواقف رئيس الجمهورية التي أطلقها من خلال قناة الجزيرة، في ظل البحث عن تسوية لإعادة تفعيل الحكومة، وعرض مقايضة تتعلق بتنحية قاضي التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار عن التحقيق مع الرؤساء والوزراء والنواب بقانون في المجلس النيابي، مقابل تفعيل عمل الحكومة، وتلبية مطالب عون المتعلقة بقانون الانتخابات النيابية، وتحديد موعد إجرائها في مايو/أيار، وحصر تصويت المغتربين اللبنانيين بستة نواب يمثلون الاغتراب.
ولكن الواضح أن التسوية التي يريدها عون لا تقتصر على قانون الانتخاب، بل هو يريد البحث في المرحلة المقبلة، المتعلقة بحلول موعد الاستحقاق الرئاسي في 30 تشرين الأول/أكتوبر 2022. وهذا يعني أمرين: إما البحث في تسوية رئاسية جديدة، وإما البحث في صيغة لتمديد عهده الرئاسي، وهذا ما عمل عون على تخريجه بقوله: إذا طلب مني البرلمان البقاء فسأبقى.
زيارة عون لقطر لا تحمل أي بعد سياسي كبير سوى أن الرجل يسعى لإظهار نفسه كحاضر في المجالس العربية بعد أن أضحى عهده الرئاسي في خصام مع دول المنطقة، ولقاؤه مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لا يتجاوز الإطار الدبلوماسي الذي خصه أمير قطر لكل الزائرين، وأن جل ما جرى بين الرجلين لم يكن سوى تبادل للنقاش الدبلوماسي، والحديث عن التعاون في بعض المجالات، فيما لم تلتزم قطر بطرح أي مبادرة تجاه دول الخليج لوقف الاندفاعة السلبية تجاه بيروت، فليس من وساطة قطرية بغطاء خليجي، والأكيد أن السعودية ليست بوارد تعديل أدائها التصعيدي تجاه لبنان.
وفوق كل هذه الأسباب هناك مواقف أخرى تدعو إلى القلق، بعدما تحدثت تقارير دبلوماسية عن خلافات بين دول مجلس التعاون الخليجي باتت تطلّ برأسها في الفترة الأخيرة. فالخلافات المكشوفة بين الرياض وأبوظبي على خلفية الأداء الإماراتي في الحرب الدائرة في اليمن لم تعد خافية، والصراع الاقتصادي والتصعيد النفطي بات حديث المجالس الخليجية بعد توقف التواصل بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد.
معطوف عليها الاندفاع نحو تركيا وإيران التي تبدو وفق مطّلعين، كأنها ترجمة عملية للخلاف المتنامي بين الرياض وأبوظبي، وجاء توقيع مجموعة من الاتفاقيات التجارية والدبلوماسية والاقتصادية المشتركة مع الأتراك لترفع منسوب القلق لدى السعودية إلى مرحلة الخوف على الأمن الإقليمي للخليج، يضاف إليها الانفتاح الإماراتي الجاري على نظام الأسد ومحاولة دفع عواصم عربية لإعادة تأهيل الأسد وإعادته للجامعة العربية.
بالتوازي، يحاول ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بكل الطرق والوسائل إعادة وصل ما انقطع مع إدارة الرئيس جو بايدن، لكنها باءت بالفشل، ولقاء مستشار الأمن القومي الأمريكي مع بن سلمان كان حافلاً بالتشنج والخلاف على خلفية الواقع اليمني واللبناني، فالأمريكي يعتقد أن الإدارة السعودية تبتزه في لحظة الانسحاب الجاري في المنطقة، وأن الهدف الرئيسي لابن سلمان هو إعادة تجميل صورته الدولية عبر لقاء يحظى به الرجل مع بايدن في واشنطن أو في أي عاصمة ينعقد بها مؤتمر يشارك به الرجلان.
لكن الباب لا يزال موصداً رغم محاولات قطرية للتوسط للرجل، لا بل إن بايدن لم يتردد بتحميل المملكة مسؤولية أزمة النفط بقولته الشهيرة: "الكثير من الأشخاص في الشرق الأوسط ممن يريدون التحدث معي وأنا أرفض الحديث معهم…"، لذا فإن كل محاولات بن سلمان لاستجلاب الأمريكيين في حرب اليمن، لأجل توفير مخارج تحفظ ماء الوجه، فشلت فشلاً ذريعاً.
وعليهِ ذهبت الرياض لحوار مع الإيرانيين برعاية عراقية، وسعت مع طهران لوقف التمدد في مأرب، فكان جوابهم: "تحاوروا مع الحوثي ونحن ندفع بالحوار".
الخلاصة اللبنانية تقول إنه من المبكر بناء أي رهان على الحراك الخارجي (فرنسي أو مصري أو حتى قطري) وما يمكن أن ينتج عنه، فالخلافات بين مكونات المنظومة الحاكمة في بيروت باتت مستحكمة، وكل يوم يضاف إليها ملف صراعي جديد لم ينجُ منه أي قطاع حتى اليوم، وبات النقاش حول ما المصيبة القادمة التي ستحملها أركان المنظومة للبلاد بعد أن دمرت البنية الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية، في ظل حديث متكرر عن تقارير أمنية تتخوف من انفجار أمني لا يعرف أين وكيف.. حمى الله لبنان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.