كنت أتحدث منذ فترة حول العنصرية في إحدى الجلسات، ولم أشأ أن أكمل كلامي الذي بدأته بقول إن "العنصرية مرض"، إلا وقاطعني أحد الحضور معترضاً على ذلك، لكنه في الحقيقة كان اعتراضاً محقاً، حيث قال إن نعت العنصرية بالمرض ربما يضفي عليها شيئاً من العفوية أو التبرئة.
إن العنصرية هي قبل أي شيء سوء يختاره الناس طواعية ورغبة. وهي شر محض، وفي الوقت ذاته جريمة كذلك. تتحول العنصرية إلى جريمة ضد الإنسانية حينما تخرج من سياق الفكر أو الرأي الخاضع للقوانين والعرف المقبول عموماً في عالم اليوم، أي حينما تتحول إلى سبب للتمييز ضد الآخرين.
وبما أن العنصرية سوء وجريمة، فإن العنصريين بالتالي سيئون ومجرمون.
العنصرية هي الجهل بالذات أولاً
على الرغم من أن العنصرية تعتبر أمراً سيئاً كما تقتضيه كافة المعايير اليوم، فإن العنصريين لا يترددون عن التهرب من الاعتراف بهذا السوء وإيجاد طرق تجنبهم من إلقاء اللوم عليهم. ولذا نلحظ أن هؤلاء العنصريين يحاولون طمس تعريف العنصرية واللجوء إلى الديماغوجية (التبرير الزائف) بهدف إقناع الآخرين بأن ما يفعلونه لا علاقة له بالعنصرية، بشكل متناقض مع الحقيقة والواقع.
لدرجة أن أكثر العنصريين راديكالية يمارسون ذلك، ويزعمون أن ما يفعلونه ليس عنصرياً! لكن لماذا؟ هل العنصرية أمر غامض لهذا الحد؟
هناك طريق آخر أيضاً لهذا التبرير الزائف، يكمن في مشاركة المواقف العنصرية مع أكبر قدر ممكن من الناس. حتى ولو دعم عدد كبير من الناس هذه المواقف، هل يعني ذلك أن العنصرية لم تعد عنصرية؟ بالطبع لا، بل تصبح العنصرية في هذه الحالة أشد خطورة، وتتحول إلى عدوان فاشي، وتحريض خطير يُفسد المجتمع.
للأسف، يبدو أن البديل الأكثر جاهزية وجاذبية للسياسة الرخيصة والسهلة على الدوام؛ هو الشعبوية العنصرية. ولأجل ذلك نجد أصحاب هذه السياسة الرخيصة دائماً ما يشيرون للأجانب أو اللاجئين كهدف سهل يمكن تحميله جميع المشاكل الاقتصادية وغيرها.
تعني العنصرية في هذه الحالة سهولة توجيه الاتهامات والإهانات ضد شريحة كاملة من الناس. إن العنصرية لا تقف عند حدود تمجيد أو تبجيل العرق الخاص بالإنسان العنصري فحسب، ولو بقي الأمر عند هذا الحد فلربما لن يفرز عن ضرر معقول، لكن حينما يتحول هذا التمجيد بالكامل إلى خطاب كراهية ضد الآخرين فلا مفر حينئذ من العنصرية.
من الذي غدر بنا من الخلف؟
عبارة "العرب غدروا بنا من الخلف" هي بلا شك عبارة عنصرية من جميع الجوانب.
لا شك أن الذين وقفوا إلى جانب الإنجليز ضد الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، قد مارسوا خيانة واضحة. لكن حين التعمق في تفاصيل مجريات الأحداث في ذلك الوقت، يجدر بنا ألا نتجاهل الجانب الآخر من الخيانة، والذي يمكن في الممارسات الاستفزازية العنيفة التي قام بها "جمال باشا" أحد زعامات "الاتحاد والترقي".
وفي هذا السياق يجدر بنا ألا نتوقف فقط عند النخبة العربية التي فضلت الوقوف إلى جانب الإنجليز ضد الإمبراطورية العثمانية، ومعظمهم بالمناسبة قد تعلموا السياسة في جمعية "الاتحاد والترقي" بإسطنبول، بل يجدر بنا كذلك أن نتوقف عند مئات الآلاف من العرب الذين كانوا جزءاً من هذه الأمة وحاربوا في جبهات لا حصر لها مثل جنق قلعة، كوت العمارة، وطرابلس، والحجاز وغيرها، وعرفوا الوطن حق المعرفة، ودافعوا عن هذا الوطن بكل ما يملكون إلى جانب إخوتهم من الأتراك والأكراد والشركس واللاز والهنود، وإلا فإننا نرتكب خيانة بحقهم واعتبارهم.
لكن على الرغم من كل ذلك، نجد أن من يتفوه بتلك العبارة العنصرية بتعسف مستهدفاً إهانة جميع العرب بهذه السهولة، يبرر بكل أريحية لنفسه ويحاول إقناع الجميع بأن ما يقوله ليس عنصرية، غير مكترث بحجم الازدراء والخيانة التي يمارسها.
كنت أريد تشبيه حال أصحاب هذه العقلية بحال البرجوازي النبيل في مسرحية موليير، لكن أعتقد أن ذلك يمنحهم نوعاً من السذاجة العفوية البريئة، على سبيل المثال حينما عرف معنى مفهوم النثر تفاجأ وشعر بالصدمة من أن خطابه الطويل الذي كان يظنه شعراً ما هو إلا نثر.
لكن في الواقع يعتبر حال العنصريين أشد من ذلك، فهم لا يكلفون أنفسهم على الأقل عناء رؤية حقيقة أن ما يفعلونه هو عنصرية بوضوح، إما بدافع الجهل أو الغطرسة. ولا شك أن أكثر شيء مستفز ووقح هو محاولة المرء الهروب من مواجهة الحقيقة.
توقعوا كل شيء من هذه العقلية
من الواضح أن رئيس بلدية "بولو" التركية من حزب الشعب الجمهوري المعارض، تانجو أوزجان، المعروف بمواقفه العدائية ضد اللاجئين، قد كرّس كل ذكائه ومواهبه الإبداعية لهذا الطريق.
إنه ينام ويستيقظ وهو يفكر كيف بإمكانه فعل شيء يُزعج من خلاله الأجانب. آخر إبداعاته كان مشروع تحصيل فواتير الماء من الأجانب بالدولار، وفرض 100 ألف ليرة تركية كرسوم للنكاح للأجانب فقط، وبالفعل تمكن بدعم أصوات الشعب الجمهوري و"الجيد" في مجلس البلدية، من إقرار هذين القرارين اللذين وجها ضربة للعقل والإنسانية والضمير والمنطق.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل دافع عما فعله، واعتبر أنه لا مشكلة على الإطلاق في ذلك. لا سيما أنه شخص مشهور بوقوفه بشدة وراء هذه الممارسات ودفاعه عنها دون اكتراث. لكن حتى الكلمات التي قالها وهو يدافع عن موقفه ويبرر محاولاً إقناع الآخرين بأن ما يفعله ليس عنصرياً، كانت مليئة بالعنصرية.
حاول تبرير ذلك بأنه يندرج في حماية مصالح الشعب التركي، حيث قال: "نحن لا نقوم بشيء عنصري، ولسنا فاشيين على الإطلاق. أنا مجرد شخص وعد الناس بحماية مصالح الشعب التركي، ولذلك أنا منتخَب. هل ينزعج إخوتنا الأجانب واللاجئون من ذلك؟ إذا كانوا منزعجين فالماء أرخص في دمشق، وبلدية دمشق لا تفرض رسوم نكاح، بل المشايخ من يعقدون النكاح هناك، ولا تفرض أي رسوم بل تأخذ نصيبها قل أو كثر. ما يعني أن لا يتعين على الأجانب الزواج هنا في بولو؟. لقد قلت بأنني لا أريد أن يأتي أجنبيان إلى بولو ويستقران هنا. وإذا كان إخوتنا اللاجئون لا تعجبهم الإقامة في بولو فليرحلوا إذن، ليذهبوا إلى بلدهم لو كانت الخدمة رخيصة هناك".
دعونا نضع جميع المناقشات التي دارت وتدور حول اللاجئين في طرف، وتصريحات رئيس بلدية بولو في طرف آخر. ولأكن صادقاً؛ لقد شعرت بالصدمة حقيقة إزاء صدور هذا الكلام عن رئيس بلدية من بلديات تركيا، هذا أمر صادم. يمكن أن نتوقع كل أنواع الإيذاء والعداوة من شخص يجرؤ على استخدام منصبه بهذه الطريقة، ثم يدافع عن فعلته دون خجل، بل بعنصرية أشد.
لا يوجد هناك أي مبدأ أو قيمة أو منطق يسمح لأي أحد بالتفكير بهذا السوء تجاه أناس مستضعفين تركوا أوطانهم رغماً عنهم دون إرادتهم ولجأوا إلى هذا البلد، أو أن يعاملهم بهذه الطريقة ثم لا يتردد عن السخرية منهم والاستهزاء بهم وهو يدافع عن ممارساته القبيحة.
قبّح الله العنصرية وحفظ الله الإنسانية من هذه العقلية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.