انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في بداية القرن الحالي، واستمرت ستة أعوام، وأطلق عليها الفلسطينيون انتفاضة الأقصى، بعد اقتحام المجرم شارون باحات المسجد حينئذٍ، في حراسة شرطة الاحتلال.
وكالعادة تفجّر الصراع بين الشعب الفلسطيني الأعزل الصامد وشرطة وجيش الاحتلال، وسقط شهداء وجرحى، وخربت مدن وقرى ومنازل ومنشآت فلسطينية، وسط صمتٍ مخزٍ من المجتمع الدولي، ومجرد اكتفاء بإدانات، وتعبير عن القلق، حتى انتهت الانتفاضة فعلياً بموت أو اغتيال الرئيس ياسر عرفات، أبو عمار، مع قائمة طويلة بالاغتيالات والاعتقالات من كافة الفصائل الوطنية والإسلامية في فلسطين.
الانتفاضة حرّكت المياه الراكدة، وأعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، بعد سنوات من السلام البارد في اتفاقيات أوسلو وغيرها، وهي امتداد لمسار الفشل في المفاوضات، المسمى إعلامياً وسياسياً بالسلام والخيار الاستراتيجي، وكان ومازال مجرد تنازلات، منذ اتفاقية كامب ديفيد بين مصر ودولة الاحتلال، وبعدها التنسيق والتطبيع المعلن وغير المعلن مع الأنظمة العربية، ولكن للأنظمة والحكومات حساباتها وللشعوب رأي آخر.
ستظل ثنائية المقاومة والمهادنة والتطبيع إشكالية في العلاقة بين الشعوب؛ حيث تفرض الإدارة الأمريكية وحلفاؤها ووكلاؤها من الرأسماليين الاحتكاريين الذين تغذوا على أقوات الشعوب العربية المقهورة، وزرعوا في مزارع الفساد هذا التعامل حتى تنال تلك الأنظمة الديكتاتورية الرضا الأمريكي، وهم يعلمون علم اليقين أن الحكام العرب مدعومون من الغرب أو الشرق، وليس من الشعوب التي تغلي من حالة الفقر والفساد والاستبداد، وتتربص بهم قوى إسلامية انتهازية أو قوى قومية عروبية ثورية ويسارية ماركسية قد تدخل في نزاع وصدام مع موازين القوى الإقليمية والدولية؛ ولهذا تعتبر القضية الفلسطينية متنفساً أو مساحة للتعبير عن الغضب، على اعتبار أنها أرض عربية مغتصبة، وأنها أرض مقدسة في كل الديانات السماوية، وبالتالي من غير الحكمة أن تعارض الأنظمة الانتفاضة بشكل معلن وإلا فقد تنفلت الأمور وتفقد الأجهزة الأمنية السيطرة على الشعوب الغاضبة، في حين أنه قد يرتفع سقف المطالبة بالتدخل العسكري بالذات في دول المواجهة المحيطة بالكيان المحتل، التي كانت في سياق المقاومة وصارت في ركاب التطبيع.
فكان الخيار الأكثر حكمة من جانب الأنظمة هو فتح باب الاحتجاجات تحت المتابعة والمراقبة وأحياناً التحكم، وعلى الجانب الآخر بدأت القوى الحية في الشعوب العربية في تنظيم تحركاتها وعناصرها في أطر التعاون والتنسيق والشراكة، للقيام بأعمال الدعم والتضامن مع الشعب الفلسطيني، ومطالبته بحقوقه المشروعة، تحرك الجماهير العربية يختلف من حيث الآليات والتكتيك والأداء، فمثلاً الجمهور الخليجي لديه أدوات الدعاء في المساجد والأماكن المقدسة مثل المملكة العربية السعودية، التي تُحرم التظاهرات، وباقي الدول قادت حملات تبرعات شديدة السخاء، ولكن يبقى تحرك جماهير دول الحوار هو الأهم، فمصر والأردن ولبنان تمتلك امتدداً جغرافياً مع الكيان المحتل، ولكنها مقيدة بالاتفاقيات والتطبيع، وهذا التحرك مختلف، ويعمل له الاحتلال ألف حساب.
الشعب المصري الذي يمثل مركز الثقل الاستراتيجي في المنطقة، الذي لم يكن في يوم من الأيام بعيداً عن قضيته الأولى وقضية العرب المركزية وهي القضية الفلسطينية تحرك فوراً وبشكل عفوي مستغلاً مخزون الخبرات والتجارب النضالية في مواجهة الكيان المحتل.
وبدأت تتشكل هياكل وتنظيمات وحملات شعبية مدفوعة بالزخم الشعبي، ومستغلة هامش حرية من السلطات، ومنتزعة مساحات أكبر للعمل التطوعي والخيري والتنظيمي، ومنها اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة، التي تأسست من عدد من الشخصيات العامة والسياسيين والمفكرين والمثقفين والحقوقيين وغيرها من لجان العمل الشعبي الداعم للشعب الفلسطيني.
لم تكن اللجنة حزباً سياسياً ولم تمثل تياراً فكرياً، وإنما كانت أشبه بجماعة ضغط أو تنسيقية شعبية احتوت مختلف اتجاهات ومشارب القوى والأفكار والاتجاهات السائدة على الساحة المصرية.
ومن هذا نلحظ أن العمل العام والمناخ السياسي في مصر كغيرها من الدول العربية وقتها كان منفتحاً أكثر، وكان العمل رغم صعوبته من قبل السلطات أكثر مرونة، بل إن موقف السلطات الحالية أشد عنفاً وضراوة ضد القضية الفلسطينية والمقاومة بشكل عام، مع ارتفاع موجات التنسيق الأمني والسياسي والاقتصادي والتطبيع، كما نوضح أن العمل الإسلامي كان مسموحاً به، ولم تكن تصنف جماعات الإسلام السياسي وتياراته بشقيها السني والشيعي كجماعات وكيانات إرهابية، بل إنهم في كثير من البلدان وكثير من الأحيان كانوا يلعبون أدوراً وظيفية لصالح النظام الحاكم بصورة أو بأخرى، ويتم مكافأتهم ببعض المناصب والمكاسب مثل النقابات واتحادات الطلاب والسماح ببعض الحرية في الحركة، والتنقل والسفر والدعوة وجمع الأموال والتبرعات، أحيانا جلبها من الخارج، ولربما يستمر التنسيق وترتفع المكافآت حتى تصل لافتتاح قنوات فضائية ومشاريع تجارية تحت ستار العمل الخيري والأهلي، ووصلت في كثير من الأحيان لعضويات في البرلمان ومناصب وزارية حتى تنفذ ما تم الاتفاق عليه، أو بالأحرى التخطيط له من قبل السلطات المحلية لعمل متنفس أو نظرية الإسفنج الذي يمتص غضب الشارع ببعض المؤتمرات والهتافات التي لا تحقق شيئاً، وإنما فقط تساعد على تسريب وتقليل الضغط المتصاعد مثل حلة البخار المنزلية.
وليس هذا إدانة لكل القوى الإسلامية، بل إن بعض قادتها من يمتلك وطنية وروحاً ثورية مقاومة وانتماء عظيماً لعروبته وقوميته ووطنه وإسلامه، ولكننا ندين ما فيه أغلبهم من انبطاح أو ضيق أفق وضعف رؤية سياسية، ولعل ما حدث بعد ثورة الربيع العربي من صعود وهبوط لتيار الإسلام السياسي خير دليل على تلك الرؤية، فلا يمكن أبداً وضع الإسلاميين في سلة واحدة، والنظر إليهم نظرة واحدة، لأنهم مختلفون ومتعددو الرؤية والمذاهب والخلفيات السياسية، بل والفقهية والعقائدية.
ولكن الرؤية التي يفتقر إليها بعض الإسلاميين كانت واضحة شديدة الوضوح عند أغلب القوى المدنية والثورية في مصر، التيار القومي العروبي واليساريين الماركسيين، وكثير من القوى الليبرالية والديمقراطية، وهي أن الصراع مع الاحتلال صراع طبقي بين رأس المال الاحتكاري، المتمثل في الأنظمة الغربية، الداعم الأول لهذا الاحتلال، وبين الجماهير العربية وقواها الحية، المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وفي أبرز تجلياتها في مصر كانت اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة، حيث أوضحت وبجلاء فشل التنظيمات الحزبية التقليدية في احتواء وتنظيم الجماهير، ليس في بلادنا فقط، بل في الأنظمة الديمقراطية نفسها، حيث أصبح النظام الحزبي والانتخابي غير معبر بشكل كامل وحقيقي عن صوت الجماهير ورغبتها.
عملت اللجنة الشعبية على جمع التبرعات العينية والنقدية والأدوية والمستلزمات الطبية من جميع أنحاء مصر، ونشطت في الأقاليم، وكان ذلك مثالاً ناجحاً لكسر المركزية الجامدة، وعملت اللجنة وقد انقسم فيها العمل على أكثر من اتجاه، منها تعريف الشعب بالقضية الفلسطينية، ورفع الوعي السياسي لدى أغلب المصريين، وكذلك تنظيم فعاليات واتصال سيناء بالوادي والدلتا، وتعريف الجماهير بما تعانيه سيناء ويعانيه أهلها من تهميش.
كما أنها عملت على مخاطبة مختلف الجهات المحلية والعربية والدولية والمجتمع المدني، لتعريف العالم والمنظمات الدولية والحقوقية بمدى فظاعة الاحتلال، كما تم تنظيم فعاليات ثقافية تضامنية بمختلف أنواعها الفنية والرياضية والثقافية.
وبرغم المضايقات والمعوقات من جانب السلطات المصرية وسلطات الاحتلال في إدخال المساعدات وقوافل الإغاثة، وبالنظر إلى وجود بعض القصور التنظيمي والسلوك غير المؤسسي من بعض الأعضاء في اللجنة، كحال أكثر التنظيمات والهياكل السياسية في مصر، حيث نعاني من تناقص ثقافة العمل الجماعي، نجحت اللجنة وبشكل كبير في مهمتها وفي تواصلها مع الجانب الفلسطيني بشقيه الحكومي والمجتمع المدني، وقد اكتسبت الخبرة الكافية في التعامل مع السلطات المحلية، ويعتبر كثير من المحللين أن تلك اللجنة وغيرها كانت النواة والأساس الذي قامت عليه ثورة يناير، حيث انتظم فيها الكثير من النشطاء والسياسيين، ورفعت من وعي المواطن، وظهر ذلك واضحاً في مظاهرات طرد سفارة الاحتلال ومقاومة التطبيع، ومحاولة فتح الحدود مع الشعب الفلسطيني المحاصر.
وبعد عشرين عاماً على تكوين اللجنة الوطنية لدعم الانتفاضة، فإننا نرى أن الحال قد تغير كثيراً للأسوأ، مع الأسف الشديد، فلم يعد المجال العام مناسباً لتلك اللجان، كما أن الإرهاب والتكفيريين قد ضربوا سيناء، واستشهد فيها كثير من خيرة رجال وأبناء الشعب المصري والقوات المسلحة، وازداد الحصار والإغلاق على الشعب الفلسطيني، وازداد دعاة التطبيع وقاحةً وإجراماً، وازداد الاحتلال في إجرامه، وتمادى في سياسة الإفلات من العقاب، فهل نحتاج إلى لجان جديدة للتضامن مع الشعب الفلسطيني الصامد المحاصر؟
وهل ستسمح السلطات في الدول العربية بموجات غضب جديدة؟ هذا ما ستسفر عنه السنوات وربما الأيام القادمة، ولكن الأكيد أننا سنظل نتعلم من مدرسة صمود ومقاومة الشعب الفلسطيني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.