يمر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية بمرحلة حساسة، ربما هي الأكثر صعوبة منذ وصولهما للسلطة في تركيا؛ فرفض المعارضة وقطاع ضخم من الشعب التركي لنظام الحكم الرئاسي الذي طُبِّق بموجب أغلبية يسيرة في الاستفتاء الذي نُظِّم في 16 أبريل/نيسان 2017 (51% قالوا: نعم، مقابل 49% قالوا: لا) ما زال يطل برأسه من النافذة. وكذلك تداعيات انقلاب 2016 وحملات التطهير في أرجاء مؤسسات الدولة المختلفة ما زالت قائمة، حتى دخلت البلاد في حالة من "الاضطراب" الاقتصادي، حيث ينمو الاقتصاد التركي بنسب غير مسبوقة عالمياً وتتعاظم الصادرات التركية بينما ترتفع نسبة التضخم، كل ذلك جاء في أعقاب الركود الذي حدث بسبب جائحة كورونا.
انخفضت قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي بنسب مرتفعة؛ حيث فقدت نحو 27% من قيمتها مقابل الدولار الأميركي منذ مطلع العام الجاري، 2021، مع نسب تضخم عالية؛ مما قلَّل القدرة الشرائية للمواطن التركي، بينما يتخذ الرئيس التركي إجراءات بخفض سعر الفائدة وقام بعزل عدد من المسؤولين الذين عارضوا رؤيته الاقتصادية.
الوضع الاقتصادي المضطرب قلَّل من نسبة التأييد الشعبي لأردوغان فوصلت إلى 38.9% في أكتوبر/تشرين الأول، بانخفاض 2.5 نقطة مئوية عن الشهر السابق، وفقاً لشركة "ميتروبول" (MetroPoll) التركية لاستطلاعات الرأي.
وبالرغم من ذلك احتلت تركيا المرتبة الثانية بعد بريطانيا بين بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الأكثر نمواً خلال الربع الثاني من العام 2021.
وأعلن مكتب الإحصاء التركي نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 21.7% على أساس سنوي خلال الربع الماضي، متعافياً بقوة من تباطؤ حاد قبل عام بسبب قيود كوفيد-19. وتعد هذه النسبة الأعلى بين الأرقام المسجلة والمعلن عنها منذ عام 1999، وفق بيانات رسمية.
وبالعودة إلى الوضع الاقتصادي وعلاقته بتحركات تركيا خارحياً، برز اسم دولة الإمارات وولي عهدها الشيخ محمد بن زايد في عناوين الأخبار من خلال محاولات لإصلاح العلاقات المتدهورة بين الدولتين على إثر ثورات الربيع العربي ووقوف كل منهما في جهة؛ حيث أيدت تركيا الشعوب العربية في ثوراتها، بينما قادت الإمارات محور الثورة المضادة لإجهاض الثورات ونجحت في العديد من محاولاتها.
كما اتهمت تركيا الإمارات بشكل غير مباشر بالوقوف خلف وتمويل انقلاب 2016، ثم وقفت تركيا بجانب قطر في مواجهة الحصار الرباعي وأرسلت قواتها في إطار اتفاقية التعاون بين البلدين مما أسهم في ردع محاولة الاجتياح العسكري الرباعي لها.
بدأت محاولات إصلاح العلاقات هذا العام (2021) حيث أجرى الرئيس التركي وولي عهد أبوظبي، اتصالاً هاتفيّاً يوم 30 أغسطس/آب بحثا فيه تعزيز العلاقات الثنائية، وبعد أسبوعين من المكالمة استقبل أردوغان في أنقرة وفداً إماراتيّاً برئاسة مستشار الأمن الوطني في الإمارات، طحنون بن زايد آل نهيان.
وذكرت وسائل إعلام تركية أن تركيا وقَّعت اتفاقين منفصلين مع كل من الإمارات وباكستان بشأن طريق شحن جديد لنقل البضائع، يختصر المدة الزمنية اللازمة للشحن عبر قناة السويس لمواجهة أزمة زيادة تكاليف النقل البحري بشكل كبير في الفترة الماضية. ففي حين أن طريق "الشارقة-مرسين"، الذي يستخدم قناة السويس يستغرق 20 يوماً، فإن المسار الجديد سيكون من 6 إلى 8 أيام.
فهل تحتاج تركيا إلى هذا التقارب مع الإمارات؟ وهل السلوك السياسي لقادة الإمارات يشير إلى إمكانية تغيير البوصلة من العداء الذي يشبه الحرب الباردة إلى علاقات دافئة تقوم على التعاون والاستثمار والنفع المتبادل؟
بالقطع، تحتاج تركيا إلى الإمارات، كما تحتاج أبوظبي عون أنقرة. بالنسبة لأردوغان وحزب العدالة والتنمية ينبغي رفع الضغوط الاقتصادية عن المواطن التركي؛ ويدرك أردوغان وحزبه أن النجاح في تلك المهمة هو مفتاح الفوز بالانتخابات القادمة، وإحدى طرق تحقيق ذلك الهدف هو فتح باب الاستثمارات الأجنبية أمام الهيئات والدول الراغبة بالاستثمار في الاقتصاد التركي. كما يضمن التواصل مع الإمارات، ومحمد بن زايد شخصياً، عدم تدفق المال الإماراتي إلى المعارضة التركية التي تقوم بتحركات عديدة لتكوين تحالفات بغية الفوز بالانتخابات ومن ثم تغيير النظام السياسي مرة أخرى إلى النظام البرلماني، ولن يكون هذا هو أكبر التغييرات في السياسة التركية.
ففي حالة فوز المعارضة، سيجري الانقضاض على إرث أردوغان السياسي بالكامل؛ حيث ستتغير البوصلة السياسية من دعم الشعوب الثائرة إلى تفضيل العلاقات التقليدية مع الأنظمة السياسية الإقليمية والدولية بغية الحصول على دعم مادي يحسِّن من وضعية الاقتصاد التركي، وتعود السياسة التركية لتيمِّم وجهها شطر الاتحاد الأوروبي من جديد. كما ستُستأنف العلاقات السياسية مع النظام السوري ومن ثمَّ قد يجري التخلص من اللاجئين السوريين بإعادتهم إلى سوريا بقطع النظر عن المصير الذي ينتظرهم على أيدي النظام، هذا غير ما ينتظر المصريين الذين لجؤوا إلى تركيا في أعقاب الانقلاب العسكري في مصر، يوليو/تموز 2013.
إذن، وفي ظل هذه الرؤية، هل إعادة العلاقات مع الإمارات ستفيد أردوغان والعدالة والتنمية في تحقيق أهدافهما؟
تشير الوقائع إلى أن الإمارات ربما تكون آخر دولة يمكن أن تحقق هذه الأهداف لتركيا؛ فالسوابق السياسية لها تدل على أنها تبحث عن مصالحها فقط بكل الطرق وأن قيادتها لا تنسى ولا تتغافل عن خصوماتها السياسية أبداً، حتى لو كانت تاريخية، وأنها مهما أظهرت الصداقة فإنها تنتظر اللحظة المناسبة للانتقام.
حدث هذا مع السعودية من قبل؛ فرغم كل الدعم الذي دعمت به محمد بن سلمان ليصير ولي العهد السعودي، فإن الإمارات حاولت السيطرة على القرار السياسي السعودي من خلاله ثم تخلَّت عنه وعن السعودية في اليمن ودبَّرت أمرها مع الخصم هناك (الحوثيين) ومع رعاته (إيران)، وبعد ذلك وقفت معاندة للسعودية في اجتماع "أوبك بلس"، في يوليو/تموز 2021، عندما رفضت الإمارات مقترحاً لتمديد اتفاق قيود الإنتاج ثمانية أشهر أخرى كانت تقدَّمت به السعودية وروسيا وأرادت إعادة التفاوض بشأن خط الأساس الخاص بها، والذي تُحسب بناء عليه مسألة زيادة أو خفض الإنتاج، وذلك لكي تتحرر في ضخِّ المزيد من النفط، لكن السعودية وروسيا عارضتا إرادة الإمارات.
كما حاولت تصفية حساب تاريخي مع قطر، بدأ في القرن التاسع عشر بمحاولة غزو واعتداء على الأراضي القطرية لتنسج خيوط الحصار ومؤامرة الغزو العسكري والاستيلاء على ثروة قطر في 2017.
وقد استخدمت القيادة الإماراتية قوتها الاقتصادية في إضعاف حلفائها، كما حدث مع مصر، حيث حصلت على امتياز تشغيل بعض الموانئ المصرية وتطويرها كميناء العين السخنة، ولكنها أهملت هذا التطوير لأكثر من عشر سنوات حتى لا يصبح الميناء منافساً للمنطقة الاقتصادية في جبل علي، وهو نفس ما تكرر مع الصومال وجيبوتي؛ إذ حصلت الإمارات على امتياز التشغيل للموانئ بغرض تعطيلها وإهمالها وإخراجها من المنافسة مما تسبب ويتسبب في ضرر بالغ للدول التي اعتبرت الإمارات حليفة موثوقة.
محاولات الإمارات للتصالح مع تركيا تأتي في إطار ما يشبه "الهدنة الدولية"، فحالة عدم الاستقرار السائدة في النظام الدولي حالياً لا تسمح ببناء تحالفات راسخة أو استراتيجية، بل تجبر كل الأطراف الفاعلة في الساحة الدولية على إبقاء كافة الأبواب مفتوحة والتجهيز لكل الاحتمالات. في هذا الإطار، يمكن فهم زيارة محمد بن زايد لتركيا ولقائه بأردوغان وكذلك ضخه لاستثمارات تقدر بـ10 مليارات دولار في الاقتصاد التركي، كبادرة حسن نية لإعادة التواصل بين الدولتين.
بالنسبة للإمارات، يبدو أن حكام أبوظبي قد انتبهوا أخيراً إلى عدم جدوى الصراعات السياسية التي افتعلوها في المنطقة، وأنه حان الوقت لتغيير السياسة الخارجية لتكون أكثر مرونة للتكيف مع المتغيرات الجديدة، سواء الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط وتعاظم النفوذ الإيراني المتوقع أو التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا. واضح أن أبوظبي قد اقتنعت بعدم جدوى مواصلة سياساتها الخارجية العدائية التي تشعل صراعات المنطقة، خصوصاً في ظل الغياب الأمريكي الواضح عن شؤون المنطقة والتركيز أكثر على المنافسة مع الصين، وبالتالي قررت الإمارات اللجوء إلى سياسة أكثر اتزاناً وقبولاً للحوار والحلول السلمية.
وهذا ما عبَّر عنه عبد الخالق عبد الله، المستشار السابق لولي عهد أبوظبي وأستاذ العلوم السياسية، بقوله إن ما يقود هذا التحول هو "إعادة تقييم القيادة للدور الإماراتي في المنطقة"، مضيفاً: "نالت المنطقة نصيبها من الصراع وعدم الاستقرار والحروب التي لا يخرج منها أي طرف منتصراً".
ولا سبيل لإعلان التغيير في السياسة الإماراتية الخارجية أفضل من زيارة الحاكم الفعلي للإمارات، محمد بن زايد، لتركيا، ولقاء أردوغان على مرأى العالم أجمع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.