قبل عاميْن من دخول الانتخابات الأمريكية الأخيرة مرحلة الحماوة وخروج الرئيس دونالد ترامب من البيت الأبيض، اتخذت الإمارات العربية المتحدة جملة قرارات عاجلة ولافتة سعت عبرها إلى تخفيض مشاكلها الإقليمية إلى حد الصفر. بدءاً من العام ٢٠١٨، وفي مبادرة سبّاقة، أعربت أبوظبي عن اهتمامها بإعادة العلاقات مع دمشق عبر إعادة فتح سفارتها. قيل حينها إن الإمارات تسعى مع دول الخليج لاستقطاب سوريا إلى حضن العرب. على الضفة المقابلة، مانع الأمريكيون التوجه الإماراتي وصدّوه.
وبعد سلسلة هجمات استهدفت ناقلات وسفناً كانت تعبر خليج عمان ومضيق هرمز وبينها سفن تبحر من وإلى الإمارات، اتخذت أبوظبي خطوة سريعة إزاء طهران في حزيران/يونيو من العام ٢٠١٩. وتمثّلت هذه الخطوة بزيارة تنسيقية إلى طهران قام بها وفد خفر السواحل الإماراتي بعد انقطاع دام ٦ سنوات. وآنذاك، أعلنت الإمارات بصفتها رئيسة رابطة الدول المطلة على المحيط الهندي للفترة بين ٢٠١٩-٢٠٢١، دعمها أمن الملاحة البحرية والتجارة والاستثمارات تحت شعار "تشجيع مصير مشترك ومسار نحو الازدهار في المحيط الهندي".
وفي شهر تموز/يوليو ٢٠١٩، بدأت الإمارات سحب قواتها من اليمن وتخفيض أعدادها إلى الحد الأدنى، وتردّد حينها أنّ القرار جاء نتيجة زيارة إلى إيران قبل شهر ومحاولة تطمينها حول جدية التحوّل الإماراتي من العداء إلى المساكنة. كذلك، يرتبط هذا القرار بالتخوف من استهداف مطارات الإمارات بمسيرات حوثية-إيرانية.
وفي ١٤ أيلول/سبتمبر من العام نفسه، وقع الهجوم بالمسيرات وصواريخ كروز على منشآت شركة أرامكو السعودية في البقيق وهجرة خريص، في هجوم اعتُبر الأخطر على الأراضي والمصالح السعودية، وأدى أيضاً إلى توترات سعودية مع الولايات المتحدة التي اكتفت بالتنديد من دون أن تؤمن حداً أدنى من الحماية لحليفها الخليجي الأكبر.
في الثالث من كانون الثاني/يناير ٢٠٢٠، اغتال الأمريكيون قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني بالقرب من مطار بغداد، اغتيال ترك مفاعيل على الساحة العربية حيث ينشط الحرس الثوري وفيلق القدس، ولا سيّما في العراق.
بعد أشهر وتحديداً في ١٣ آب/أغسطس من العام ٢٠٢٠، وقعت "إسرائيل" مع الإمارات معاهدة سلام (اتفاق تطبيع)، أتبعتها بمعاهدة مماثلة مع البحرين. وفي تعليقه، أعلن وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية آنذاك أنور قرقاش عن موافقة بلاده على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، مؤكداً أنّ "بلاده تريد التعامل مع التهديدات التي تواجه حل الدولتيْن، وتحديداً ضم الأراضي الفلسطينية"، كما "حثَّ الفلسطينيين والإسرائيليين على العودة إلى طاولة المفاوضات".
وفي الخامس من كانون الثاني/يناير من العام ٢٠٢١، عقدت قمة العلا التي كرست المصالحة الخليجية مع قطر، وقد واكبت القمة التسلّم والتسليم في البيت الأبيض الذي خرج منه ترامب في العشرين من الشهر نفسه. وفي شباط/فبراير، فككت الإمارات قاعدة "عصب" الواقعة على البحر الأحمر التي اعتبرت أساسية في حرب اليمن منذ العام ٢٠١٥، نظراً لقربها من الحديدة من جهة وقدرتها على تأمين الإمداد اللوجيستي للتحالف العربي من جهة ثانية.
بين العاميْن ٢٠١٥ و٢٠١٩ إذن، انخرطت الإمَارات في حرب اليمن بشكل كبير بل عدّتها إيران خصمها الثاني بعد السعودية، وساءت علاقاتها بشكل كبير مع قطر وتركيا، ومع الأردن بدرجة أقل.
لا تنفصل هذه التحوّلات عن التغيّرات التي شهدتها الساحة الأمريكية، وعليه، ارتأت الإمارات اليوم حاجةً إلى تغيير توجهاتها والتخلي عن القوة الصلبة العسكرية والعودة إلى القوة الناعمة المرتكزة إلى الاقتصاد والأمن.
وهذا ما دفع مستشار الأمن الوطني طحنون بن زايد للتحرّك نحو تبريد الأزمات والإعداد لزيارات وزير الخارجية ثم ولي العهد إلى الدول التي ساءت العلاقات معها. فخلال شهر واحد (آب/أغسطس)، زار كلاً من تركيا والأردن وقطر، أمّا وزير الخارجية عبد الله بن زايد فزار دمشق في التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر والتقى الرئيس بشار الأسد، في أوّل إشارة دامغة إلى رغبة بلاده بإعادة العلاقات مع سوريا.
الزيارة الأكثر استراتيجية تبقى تلك التي قام بها ولي عهد أبوظبي وصاحب القرار الإماراتي محمد بن زايد إلى تركيا في الرابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، حيث استقبله رئيس الدولة رجب طيب أردوغان بحفاوة لافتة، ثم مشى الرجلان على سجادة فيروزية فريدة مُحاطَيْن بموكب من الفرسان.
كانت تلك المرة الأولى منذ شباط/فبراير ٢٠١٢ التي يقوم بها ولي عهد أبوظبي والحاكم الفعلي للدولة بزيارة تركيا؛ إذ يعود الخلاف التركي-الإماراتي إلى العام 2013 إبّان تأييد الإمارات الانقلاب العسكري الذي قاده الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بوجه نظيره الراحل محمد مرسي الذي كانت تجمعه علاقة قوية برئيس وزراء تركيا آنذاك رجب طيب أردوغان، ثم تأجج التوتر بين البلديْن بعد اتهام تركيا الإمارات بدعم وتمويل محاولة الانقلاب الفاشلة في العام ٢٠١٦.
بالعودة إلى زيارة بن زايد، فقد أعقبها إنشاء صندوق استثماري بقيمة ١٠ مليارات دولار في تركيا، ويُضاف هذا الصندوق إلى غيره من الصناديق التي موّلتها الإمارات في المنطقة في مؤشر واضح إلى رغبتها الحاسمة في الاستثمار في مسار إعادة إعمار سوريا فور تخفيف قيود قانون قيصر والعقوبات الأمريكية.
عبر هذه الخطوات تعود الإمارات إلى ما كانت عليه ما قبل حرب اليمن، فقد انتقلت من أداة القوة العسكرية الصلبة إلى القوة الناعمة مواكبةً مفاوضات الملف النووي الإيراني التي انطلقت هذا الأسبوع في فيينا. وقد سبقت هذه المفاوضات لقاءات بين الأمريكيين ودول الخليج وبين الأمريكيين والفرنسيين والبريطانيين والألمان من جهة، ودول الخليج ومصر والأردن في الرياض من جهة ثانية، وقد فُهم منها أنّها محاولة لإقناع تلك الدول بوجهة نظر الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة الرئيس جو بايدن الذي يريد إعادة تفعيل مندرجات اتفاق العام ٢٠١٥ النووي.
وهنا تحسبت الإمارات لواحد من الاحتماليْن: إذا فشلت المفاوضات تحصل مواجهات بأشكال مختلفة، وعندها تكون أبوظبي قد نأت بنفسها عن أي شكل قد تتخذه المواجهات، بل حمت حدودها واقتصادها واستثماراتها. أمّا إذا تم التوصل إلى اتفاق، فتستفيد الإمارات من علاقات حسن الجوار في الإقليم وتستطيع تالياً لعب دور اقتصادي بارز ودور سياسي مقبول.
ويبدأ هذا الدور من بغداد ولا ينتهي في دمشق، إذ يصل ربما إلى بيروت العاصمة الأقل حضوراً على جدول اهتمامات الإمارات والسعودية ودول الخليج العربي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.