صباح الرابع والعشرين من الشهر الجاري، تم انتخاب امرأة لأول مرة رئيسة وزراء في السويد، مما أعطى دفعة أمل معينة في بلدها. ولكن عندما رأت أنها لا تستطيع تطبيق سياستها، لا سيما إثر سقوط مشروع الموازنة في مجلس النواب، استقالت في مساء اليوم نفسه. جرَّبت وفشلت، فاستقالت. كل ذلك في 7 ساعات فقط. على الأقل، كان لها شرف التجربة.
فماذا ينتظر رئيس مجلس الوزراء في لبنان كي يستأنس بتجربة نظيرته السويدية؟
جاء نجيب ميقاتي إلى رئاسة الحكومة على أساس القيام بمهمة رئيسية، وهي تخفيض سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، أو على الأقل، لجم ارتفاعه. ولكنّ سعر الدولار تجاوز اليوم سقف الـ25 ألف ليرة، وأصبح 80% من الشعب اللبناني يرزح تحت خط الفقر، في حين أنّ 30% من أطفال لبنان ينامون وبطونهم خاوية، وذلك لأول مرة منذ تأسيس دولة لبنان سنة 1920.
كل ذلك، ورئيس الوزراء الجديد، نجيب ميقاتي، ما زال يكتفي منذ تشكيله للحكومة، بالقيام بجولات في العالم، ولكن دون أي فائدة أو نتيجة إيجابية فعلية على الوضع الاقتصادي والمالي في لبنان.
الموضوعية تقتضي الاعتراف بأنّ ميقاتي نجح حيث فشل غيره على مدى 9 أشهر واعتذر مجاناً دون أن يقطف أي ثمن سياسي، إذ إنّ ميقاتي استطاع على الأقل تشكيل حكومة أفضل الممكن، في أسوأ الظروف، وفي فترة وجيزة نسبياً.
صحيح أنه منذ البداية، كان الأمل ضئيلاً بنجاح الحكومة، ولكن هذا لا ينفي أنه كان هناك بصيص أمل، سيما أنّ تشكيل الحكومة هو شرط ضروري (ولكن غير كاف) لمحاولة الخروج من الأزمة الاقتصادية المالية، خصوصاً عبر التفاوض مع صندوق النقد الدولي.
ولكن من جهة أولى، فإنّ الوعود الفرنسية بالدعم الخليجي لم تترجم، لألف سبب وسبب. قرر الخليج أن يدير ظهره للبنان في عز محنته، وأن يقطع علاقاته معه، وأن يطلق العنان لأبواقه في لبنان ضد مصلحة بلدهم وسيادته، كل ذلك بذريعة أنّ اللبنانيين لا يواجهون بما فيه الكفاية حزب اللّه المنضوي في محور الممانعة، وكأنَّ على اللبنانيين أن يدخلوا في حرب أهلية جديدة كرمى لعيون الخليج.
هذا في حين أنّه بنفس الوقت، قامت دولة خليجية (الإمارات) من تلك الدول التي قطعت علاقاتها مع لبنان، ببلع الموس، أول مرة مع محور الممانعة، وأشهرت روح التسامح والمصالحة، وأرسلت وفداً عالي المستوى لزيارة بشار الأسد، وذلك دون أن تعترض أي من دول الخليج الأخرى التي قطعت علاقاتها مع لبنان على هذه الزيارة الإماراتية لرأس النظام السوري.
ثم بلعت نفس الدولة الخليجية الموس، ثاني مرة، مع ما تسميه "الإسلام السياسي" الذي تواجهه بضراوة دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، في بلدانها وعلى امتداد الإقليم. وأشهرت الإمارات، هذه المرة أيضاً، أسمى ابتسامات التسامح والمصالحة، وذهبت للاستثمار بـ10 مليارات دولار في تركيا أردوغان، ولم تلاقِ الخطوة الإماراتية تجاه تركيا أي معارضة من أي دولة خليجية من تلك التي قطعت علاقاتها مع لبنان.
وكأن الخليج لا يستهويه إلا الاستقواء على أصغر وأضعف بلد في المنطقة، وفي أوج الكارثة الواقع بها.
بالمقابل، عطّل حزب اللّه الحكومة بسبب المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت، القاضي طارق بيطار، وعلى وقع شد الحبال في مفاوضات فيينا، لا سيما التعنّت الإيراني في الملف النووي. كما لم لم يسهّل الحزب مهمة ميقاتي في محاولة نزع فتيل الأزمة المستجدة مع الخليج بذريعة تصريحات الوزير جورج قرداحي، إذ شد الحزب من أزر قرداحي، ورفض الحزب أن يقدّم قرداحي استقالته، وحوّله إلى نوع من البطل القومي.
ذلك في حين أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون مشغول، كعادته، باجتراح وسائل التعطيل، هذه المرة لتأمين توريث كرسي الرئاسة لصهره المدلل بعد انتهاء عهده الكارثي، عهد نكبة لبنان.
أمام هذه الحالة، حتى معالج نفسي يكافح البارانويا وعقدة الشعور بالاضطهاد، سوف يقول: فعلاً، لا مجال للشك، لقد تهافتت علينا الأمم. طبعاً المسؤول الأول عن هذه الحالة، هو تراكم أخطاء اللبنانيين في السياسة، التي حوَّلت بلدهم إلى مجرد ساحة صراع للمحاور المتنازعة في الإقليم. ولكن لا يمكن تحميل لبنان وحده كل المسؤولية عن تهافت الأمم عليه، ولا تبرئة اللاعبين الإقليميين من أي مسؤولية عن الوضع اللبناني. وفي جميع الأحوال، لا يمكن تصحيح الخطأ اللبناني بخطيئة من الدول الأخرى، لا سيما الخليجية منها.
الطابة الآن في ملعب ميقاتي. فبدل أن يرتضي لنفسه أن يكون مجرد شاهد زور، وأن يضيع وقته ووقت اللبنانيين في انتظار غودو، ربما الأجدر به أن يستقيل، وذلك اقتداء بما فعلته مؤخراً رئيسة وزراء السويد الجديدة.
وإذا كان ما زال ميقاتي يعتقد أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سوف ينجده، فالفرنسيون مشغولون الآن بموجة جديدة قوية من جائحة كورونا هناك، وماكرون مأخوذ بحملة الانتخابات الرئاسية التي انطلقت ولو بشكل غير رسمي، وهو، حتى لو قام قريباً بزيارة إلى دول الخليج، إلا أنه ليس لديه أصلاً في الشرق الأوسط غير الكلام والخطابات الرنانة، ولا يملك أي ثقل فعلي أو تأثير سياسي في الإقليم، اللّهمّ إلا توقيع العقود، كما أثبتت ذلك الأحداث المتتالية في الملف اللبناني منذ انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، وفي الملفات الأخرى في المنطقة.
وفي حال لم تنحل أزمتا تعطيل الحكومة وعجزها عن القيام بأي إنجاز لغياب الدعم المالي الخارجي، وحصلت الاستقالة، فهناك 3 ملاحظات أساسية:
1) بعد أن ساهمت دول الخليج في تعطيل إقلاع الحكومة، سوف تعتبر أنها حققت انتصاراً في لبنان في حال حصلت الاستقالة، وسوف تفرح أبواقها اللبنانية كثيراً وتغتبط بهذه الاستقالة. ولكن ذلك لا يهم. على الرئيس نجيب ميقاتي أن يستقيل ليس كرمى لعيون دول الخليج وأبواقها اللبنانية التي تدعوه للاستقالة منذ اليوم الأول لتشكيله الحكومة، خدمة لمصلحة دول الخليج ـ وعلى رأسها السعوديةـ في صراعها المفتوح مع إيران في لبنان، بل عليه أن يستقيل لأنّ المصلحة اللبنانية أصبحت الآن تتطلب هذه الاستقالة، والفارق بين الحالتين كبير، لمن يريد رؤيته.
2) هناك خوف، لا سيما من الدول الغربية، على مصير الاستحقاق النيابي في لبنان في حال استقالت الحكومة، وهذا أمر جيد. يمكن لميقاتي أن يستعمل هذه النقطة كوسيلة "مقايضة" وضغط سياسي: لا تريدون استقالتي؟ حسناً، إذا أمّنوا لي أقل مقومات الدعم المالي والاقتصادي، وإلا سوف أستقيل، لأنه لا معنى للاستمرار بحكومة لا تستطيع أن تنجز أي شيء دون دعم مالي خارجي.
3) في حال استقالة ميقاتي، هذه المرة يجب مقاطعة الاستشارات النيابية الإلزامية التي يجريها رئيس الجمهورية لتكليف رئيس جديد للحكومة، لا سيما من القوى السيادية، وخصوصاً من النواب السنّة. فمن غير المنطقي أو الجائز بعد اليوم تقديم الشخصية السنية تلو الأخرى لرئيس الجمهورية، كي "يحرقها" سياسياً، وذلك بالتكافل والتضامن مع حليفه حزب اللّه، في حين أنّ "صوملة" لبنان جارية على قدم وساق.
وللبحث صلة إن شاء اللّه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.