مَن يتذكر هزيمة العرب المدوية في حرب يونيو/حزيران عام 1967 يتذكر أيضاً أن أحد الأسباب التي أدت إلى تلك الهزيمة هو ما نتج من استنزاف لقدرات الدولة المصرية خلال تدخلها العسكري في اليمن قُبيل اندلاع حرب 1967، فهل تتكرر لعنة اليمن لتصيب المملكة العربية السعودية بعد تدخلها العسكري هنالك؟
هذا احتمال وارد لأن مخطط تفكيك وإعادة تركيب الدول العربية وفق مقتضيات النظام الإقليمي القادم يشمل السعودية أيضاً، فهل يدرك العرب قبل فوات الأوان بأن القتال بين العرب والعرب هو عبارة عن انتحار ذاتي؟
هل يستوعب العرب أخيراً أنه في اقتتال الإخوة لن ينتصر أحد بل الكل مهزوم؟ هل يعلم العرب أن سلوك المكابرة السائد اليوم سيجعل من اليمن والسعودية لقمة سائغة يلتهمها المشروع الذي يرسم لهذه المنطقة بدماء عربية ولصالح دول أجنبية؟
بكل أسف هناك من لا يعتقد بوجود مثل هذا المشروع أو أنه لا يطاله، رغم أنه مشروع واضح، لا ألغاز فيه لا أحجيات وهو يهدف إلى طمس الهوية العربية بتفكيك الدول العربية إلى كيانات طائفية أو قبلية أو مناطقية، كخطوة أولى، حسب ظروف كل دولة على حدة، بحيث تصبح الهوية الفرعية هي هوية تلك الكيانات ومن ثم تتم إعادة تركيبها كدولة مركزية دون هوية وطنية جامعة وهو قيد التنفيذ الفعلي في اليمن وليبيا وسوريا والعراق وغيرها.
واللافت للنظر في هذا السياق هو فتور وتدهور العلاقات الأمريكية – السعودية في فترة عصيبة تمر بها المملكة نتيجة الحرب الدائرة في اليمن، حيث تم مؤخراً سحب صواريخ باتريوت الأمريكية من قاعدة الأمير سلطان، وهناك علاقات غامضة تربط أمريكا بالحوثيين إضافة إلى ذلك تجاهل وزير الدفاع الأمريكي الرياض خلال جولته الأخيرة لبعض الدول في المنطقة، ناهيك عن رفض جو بايدن التواصل مع الحاكم الفعلي للمملكة، محمد بن سلمان، عدا عن الخلافات التي طفت على السطح حول ملف النفط واستخدام الرئيس الأمريكي لمخزون النفط الاستراتيجي في أمريكا بشكل استثنائي وجزئي لتخفيض أسعار النفط ودعوته الدول المستوردة للحذو حذوه فهل هذه المؤشرات تدل على أزمة دورية بين البلدين؟ أم أنها بدايات مرحلة أخرى؟
على ما يبدو، فإن صناع القرار في المملكة السعودية يعتبرونها أزمة عادية حصل ما يشبهها في الماضي أو أصعب منها الأزمة التي نشأت خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وقطع البترول أو بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 وتم تجاوزها مرتكزين إلى عدة أوهام سنستعرضها ونفندها لنثبت أن هذا الفتور من طبيعة أخرى وهو بداية لمسار طويل يستهدف الاستقرار في المملكة.
الأوهام السعودية
وأول تلك الأوهام هو الظن بوجود أمريكا الجمهورية وأمريكا الديمقراطية، وهذا مخالف للحقيقة، فالرئيس الديمقراطي جو بايدن مثلاً صرَّح في مطلع شبابه بأن السعودية "ليست سوى مجموعة من 500 أمير وعائلاتهم". وهذا العدد من الأمراء أصبح أقل بالتأكيد بعد إدخال الكثير من الأمراء إلى إصلاحية "الريتز". ومثله الرئيس الجمهوري ترامب صرَّح في سنة 2018 بأنه قال للملك السعودي: "إننا نحميك.. وقد لا تبقى هناك لمدة أسبوعين بدوننا". وخلال الحملة الرئاسية صرَّح المرشح الرئاسي الديمقراطي بايدن مطلع نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 2019 بقوله: "أود أن أوضح أننا لن نبيع في الواقع المزيد من الأسلحة لهم، بل سنجعلهم يدفعون الثمن، في إشارة إلى السعودية" وتحدث أيضاً عن نبذ السعودية هذه مقتطفات من الماضي القريب تكفي لإثبات أن أمريكا واحدة ولا فائدة من المراهنة حزبية الرئيس.
الوهم الثاني السائد هو أن الإخلاص التاريخي لأمريكا من قِبَل المملكة العربية السعودية سوف يكبح قادة أمريكا من إقرار أية خطوات تؤذي العائلة المالكة أو المملكة السعودية، ولتفنيد هذا الوهم لا بد من شرح النظرة الأمريكية للتاريخ. يقول المؤرخ إدوارد كار ما معناه، كي يتخذ أي حدث جرى في الماضي صفة حدث تاريخي يجب أن يؤدي استرجاعه في الحاضر إلى خلق تأثيرات ملموسة تساهم في صياغة المستقبل، أي ليس بالضرورة أن تكون كل أحداث الماضي أحداثاً تاريخية لمجرد أنها حدثت بالفعل. وبالتالي فإن وصف الحدث بالتاريخي يحدده السياسي أو المؤرخ بالركون إلى خلفيته الثقافية بالدرجة الأولى أو المصالح المرتبطة بها.
ولتوضيح الأمر أكثر، لنأخذ صناع القرار في المملكة العربية السعودية كمثال، حيث يظنون أن الخدمات التي قدموها لأمريكا خلال حقبة الحرب الباردة وخلال حقبة ما يسمى "مكافحة الإرهاب" التي توّجت بغزو أمريكا لأفغانستان والعراق على التوالي هي صفحات مشرقة في تاريخ العلاقات الأمريكية – السعودية، أي أن ما جرى هي أحداث تاريخية وهي كافية لضمان حرص أمريكا بشكل دائم على سلامة المملكة وحكامها.
لكن في الجانب الآخر تعتبر أمريكا ما جرى هي مجرد أحداث من الماضي، وما تبقى هي الدروس والعبر وعلى العكس تماماً يعتبر صناع القرار في أمريكا أن أحداث 11 سبتمبر 2001 هي أحداث تاريخية بينما يعتبرها صناع القرار في المملكة بأنها باتت من الماضي.
وبما أن القوي هو من يكتب التاريخ فإن النظرة الأمريكية تتفوق على النظرة السعودية رغم عدم نزاهتها.
الوهم الثالث هو أن إدارة بايدن من خلال تجاهلها ولي العهد ورفض التحدث معه تهدف إلى تأهيله والتخفيف من جموحه، وأن اللوبي السعودي الناشط في أمريكا كفيل بانتزاع اعتراف الإدارة الأمريكية بولي العهد والملك المنتظر والتعامل معه.
وأول الغيث هو رفع الحظر عن صفقة الـ650 مليون دولار للأسلحة، وبالتالي يظنون أن نظرة الرئيس بايدن نحو ولي العهد بدأت تتجه إلى الايجابية، لكن الحقيقة في مكان آخر. إذ إن ولي العهد كان قد أكد في العام 2018 أنه إذا ما طورت إيران قنبلة نووية "فسوف نحذو حذوها في أقرب وقت ممكن"، هذا التصريح كان كافياً لعدم الثقة بالتعامل معه من الإدارة الأمريكية، لأنه تجاوز بهذا التصريح كل المحرمات وما تغاضى عنه ترامب حينها لا يعني أبداً أنه أصبح في طيّ النسيان، فإذا ما ذكر الطفل العربي القنبلة الذرية من الممكن أن تعاقبه أمريكا، فكيف إذا ما هدد بتصنيعها من يمتلك القدرة على ذلك.
الوهم الرابع هو تصديق ما يشاع عن أفول العصر الأمريكي في المنطقة، علماً أن أمريكا تنتهج بشكل واضح ومعلن عنه سابقاً سياسة التموضع بطريقة أخرى على الخريطة العالمية لضمان مصالحها، ومن ضمنها إعادة توزيع لقواتها المسلحة. لكن إذا ما لوحظ أي تراجع في النشاط الدبلوماسي الأمريكي في المنطقة، هذا يعني أن بعض ملفات السياسة الخارجية الأمريكية انتقل من مكاتب وزارة الخارجية إلى مكاتب وكالة المخابرات المركزية.
أما بعض الملفات الأخرى بتكليف الوكلاء الاهتمام بها، ومنها دولة الإمارات التي نشطت دبلوماسياً في الآونة الأخيرة بشكل لافت، بعد أن تلقى ولي العهد جرعة حب السلام من "الديانة الإبراهيمية" الجديدة، وبعد بنائه مسجداً وكنيساً وكنيسة حصل على لقب خادم المثلث الإبراهيمي، وبذلك يكون قد بدأ بمنافسة المملكة على الألقاب الدينية بحيث لم يكتفِ بمنافستها في المجال الدبلوماسي.
وفي مطلق الأحوال إذا ما صحَّ رحيل أمريكا، فإن الفراغ القادم لن تستطيع لا روسيا ولا الصين ملأه لعدم قدرتهما على القيام بهذه الأعباء، وما نقوله لا نقصد به أبداً تأييد بقاء أمريكا في المنطقة بل نرغب برحليها، لكن هناك من يقول إن الخيار الوحيد للقادة في المملكة لتجاوز الأزمة مع أمريكا هو التطوع في سلك التطبيع، لكن حتى هذا الخيار سوف يزيد من مشاكل المملكة في الداخل، ومن الصعب إيجاد عنوان مقنع لهذا التطبيع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.