من أهم عوامل التفوق التي كانت تصبّ في صالح البوليساريو في حرب الصحراء الأولى في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إلى جانب اعتمادها أسلوب حرب العصابات وتوفرها على ملاذات خارج الإقليم، فضلاً عن التسليح النوعي الذي وفره لها كل من القذافي والجزائر، ضعف أداء الجيش الموريتاني آنذاك، الذي كان لا يزال في طور التأسيس، فدخل لتوّه في حرب غير متكافئة أنهكت اقتصاد البلاد وفاقمت أوضاعها الأمنية والعسكرية.
تقييم أقرّ به الرئيس الموريتاني الأسبق محمد خونا ولد هيدالة، في مذكراته التي نشرت تحت عنوان "من القصر إلى الأسر"، حيث برَّر اتفاق السلام الذي أبرمه مع البوليساريو بالجزائر، واعترافه بالدولة المعلنة لدنها بعد إعلان موريتانيا عن انسحابها من النزاع، بعدم تمكن الجيش الموريتاني من السيطرة على المناطق الشمالية، ما جعلها مستباحة من طرف البوليساريو، فكان لزاماً أن يوقّع اتفاقاً مع الجبهة يحفظ ماء وجه العسكر الموريتاني، الذي كان قد استولى لتوه على السلطة، تسمح من خلاله موريتانيا بشكل رسمي للبوليساريو باستعمال أراضيها في حربها ضد المغرب.
طبعاً الأمر بات اليوم مختلفاً تماماً، فقدرات الجيش الموريتاني قد تطورت كثيراً عن سابق عهدها، خاصة في العشريتين الأخيرتين منذ مطلع الألفية الحالية، حيث ساهم نمو الموازنة الوطنية لموريتانيا ودخولها في عديد من التفاهمات الدولية المتعلقة بالتنسيق والتعاون الأمني والعسكري مع مجموعة من القوى الدولية، خاصة تلك المتعلقة بمحاربة الإرهاب ومكافحة الهجرة السرية، فضلاً عن التطورات التي تشهدها جارتها مالي، حيث تدهورت الأوضاع الأمنية بشكل كبير على مقربة من حدود موريتانيا الشمالية، ما زاد من أهمية الدور الموريتاني في ظل مناخ إقليمي أمني وسياسي مضطرب، وخاصة بعد التصعيد الميداني الذي تشهده الصحراء والعلاقات المغربية الجزائرية مؤخراً.
من جهة قيادة البوليساريو يبدو أنها لم تستوعب التطورات الميدانية المسجلة، سواء تلك المتعلقة بمقدرات الجيش الموريتاني من حيث العدد والعدة، أو تلك المرتبطة بالسياقات الجيوسياسية في المنطقة التي لم تعد تسمح بإضعاف أي من دولها، في ظل الأدوار الأمنية التي باتت تضطلع دول المنطقة بها بالنسبة لعديد من القوى الدولية الوازنة، التي تهم ملفات أمنية وعسكرية حساسة، من شأن التفريط فيها أن يقوض الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.
فقد سبق لعديد من القيادات في البوليساريو أن خرجوا بتصريحات، أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها تتجاوز الأعراف الدبلوماسية، فتطاولوا على الدور الموريتاني من خلال محاولة الدفع بموريتانيا إلى إغلاق معبر الكركرات، وتدخلوا في الشأن السيادي الموريتاني المتعلق بتفاهماتها مع المغرب، وسلطوا وسائل الإعلام المحسوبة على الجبهة للتهجم على موريتانيا، بل وصل بهم الأمر إلى التسبب في أزمة ندرة المواد الغذائية الأساسية في الأسواق الموريتانية، نتيجة إقدام البوليساريو على غلق معبر الكركرات قبل عام ونيف.
سلوكات صادرة عن قيادة البوليساريو بيّنت حينها ضعف تقييمها لحقيقة وأهمية الدور الموريتاني، في ظل المتغيرات الكثيرة التي ساهمت في تصاعده في المنطقة، خاصة ما يتعلق باضطلاع الجيش الموريتاني بالالتزامات الملقاة على عاتقه في تأمين كافة التراب الإقليمي الموريتاني، وبالأخص منه المحاذي للمناطق العازلة شرق الجدار في الصحراء، بحكم التحديات الأمنية التي تشهدها تلك المناطق، وأيضاً بحكم تواجد منجم الحديد الذي يعتمد عليه الاقتصاد الموريتاني إلى حد كبير فيها، حيث باتت المناطق الشمالية في موريتانيا مناطق عسكرية محظورة على المدنيين منذ عدة سنوات، وهو ما قوض تحركات البوليساريو قياساً لفترة حربها السابقة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
معطيات تضاف للتحول الكبير في استراتيجية الجيش المغربي، الذي تمكن من تأمين كافة أجواء إقليم الصحراء المتنازع عليه، عبر الاعتماد على تكنولوجيا الطائرات المسيرة، وخاصة بعد عديد من العمليات النوعية التي بات يشنها طيرانه العسكري، والتي شلت قدرات الجبهة داخل الإقليم، وهو ما يفسر ما جاء في تقرير الأمين العام الأممي الأخير أنطونيو غوتيريس حول ملف النزاع في الصحراء، حيث أشار إلى محدودية تأثير العمليات العسكرية التي تشنها جبهة البوليساريو، موضحاً أنه لم يبلغ عناصر المينورسو بحدوث أي خسائر غرب الجدار، فيما أشار إلى تراجع عمليات قصف البوليساريو المحدودة الأثر، منذ شهر فبراير/شباط الماضي، مبيناً تركزها في منطقة المحبس، المحاذية للحدود مع الجزائر، بنسبة تتجاوز الـ80% من مجمل العمليات المسجلة.
خلاصات التقرير الأممي توضح محدودية حركة عناصر البوليساريو، الذين فقدوا القدرة على المناورة في كافة مناطق الإقليم، وبات تواجدهم المحدود التأثير منحصراً بمحاذاة الحدود الجزائرية، ما يؤكد على التزام موريتانيا بالمسؤوليات الأمنية الملقاة على عاتقها في تأمين مناطقها الشمالية، وعلى تمكنها من بسط سيادتها على كامل ترابها الإقليمي، ويعزز التقارب المسجل في مواقفها مع المغرب، خاصة منذ عملية تأمين الأخير لمعبر الكركرات، التي لاقت تجاوباً ميدانياً موريتانياً، تمثَّل في تنسيق الجانبين عملية تشغيل المعبر مباشرة بعد تأمينه.
يبقى أن تتمكن موريتانيا من تعزيز أدوارها العسكرية والأمنية وبسط سيادتها على كامل مناطقها الشمالية، لأن ذلك سيساهم في النأي بها عن التورط في نزاع سبق أن اكتوت بنيرانه، كما سيصب في ترسيخ موقفها الرسمي المتسم بـ"الحياد الإيجابي"، ويعزز إمكانية لعبها أدواراً حيوية بخصوص دعم الوساطات والمساعي الدولية التي تعكف عليها الأمم المتحدة لحل النزاع الصحراوي، عبر مقاربة الحل التوافقي الذي باتت تتبناه، في ظل مشاركة موريتانيا المرتقبة في الطاولات المستديرة، التي يعمل المبعوث الأممي الجديد ستيفان دي ميستورا على التحضير لها، والتي ستضم أيضاً كلاً من المغرب والجزائر والبوليساريو.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.