شهدنا يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول خروج السودانيين في كل أنحاء البلاد، حيث خرج الناس في المدن والحواضر والقرى وقد كان هتافهم يشق عنان السماء، في هذه الكرنفالات رسم السودانيون لوحة تطلعاتهم وأحلامهم في قيام الجمهورية الثانية التي يجب أن تقوم على أساس مشروع وطني معالمه واضحة وضوح الشمس.
أهم هذه المعالم هي تأسيس دولة المواطنة المتساوية حيث الناس سواسية أمام القانون، دولة تجرّم التمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين أو النوع، وهذه الدولة يجب أن تحكم بواسطة نظام ديمقراطي حقيقي يفصل بين السلطات (أعني السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية وتكون لكل سلطة صلاحياتها ولا تتغول فيه سلطة على أخرى).
هذه الدولة يجب أن تضمن وتصون الحريات الأساسية المنصوص عليها في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان (من حرية التنظيم وحرية التعبير وحرية الضمير وغيرها) وبناء المؤسسات التي تصون هذه الحريات هو أساس ضمان صيانة الكرامة الإنسانية.
هذه الدولة أيضاً يجب أن تقوم على أساس تحقيق العدالة الاجتماعية والعدالة النوعية في بنيانها الدستوري، مما يلزم بتطوير سياسات تضمن توفير سبل الحياة الكريمة لكل أفراد المجتمع خصوصاً المستضعفين والمهمشين.
هذه الدولة أيضاً يجب أن تضمن وتحمي التنافس الحر في مجال الإبداع والابتكار وريادة الأعمال بوضع القوانين والسياسات التي توفر هذه البيئة. في تقديري هذه الدولة يجب أن تتبنى نظاماً شبه رئاسي، حيث إن السلطة التنفيذية والسيادية تقسم ما بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء حيث يقوم الرئيس بتعيين رئيس الوزراء على أن يحصل على موافقة البرلمان، وهذا ليقيني أنه ليس بإمكان أي قوى سياسية الحصول على أغلبية لتفادي مشاكل حكومات التحالفات في الديمقراطيات البرلمانية، فكرة انتخاب رئيس الجمهورية من قبل الشعب مباشرة يمكن أن تضمن التفاف الناس حول رمز وطني يساهم في معالجة تهتك النسيج الاجتماعي والاحتقانات الإثنية. هذه خطوط عريضة للإجابة عن سؤال ماذا يريد السودانيون؟
أما في أمر كيف يمكن الوصول إلى هذه الدولة المنشودة، أي ما هي الآليات التي ستوصلنا إلى أرض الميعاد، فهذا أمر قابل للتغيير، فأي وسيلة أو آلية ما قد تكون مفيدة اليوم لكنها غير مفيدة في الغد، وهذا أمر يجب أن يخضع للتغيير حسب احتياجات المجتمع وحسب البرامج والتوجهات السياساتية التي تفوز بالأغلبية في كل جولة انتخابية.
في الوقت الراهن، أي في هذه المرحلة الانتقالية، هنالك واجب ما قبل البناء الذي يجب أن يتم قبل أن نبدأ في الحديث عن تأسيس هذه الدولة، وأول هذه المطلوبات هو تحقيق السلام الشامل وعودة اللاجئين والنازحين، تفكيك دولة المصالح الريعية التي حولت مؤسسات مثل الجيش والأمن والشرطة إلى مؤسسات استثمارية لا تخضع لأي رقابة من قبل جهاز الدولة وكأنها هي ليست جزءاً من جهاز الدولة بل كائن متعالٍ على أي شيء في هذه الدولة.
ويجب أن يسبق ذلك توحيد كل الميليشيات وجيوش الحركات المسلحة في جيش واحد يعاد بناؤه وفق عقيدة قتالية جديدة أساسها الاحترافية وحماية الدستور، وفق ما ورد في التصورات عن شكل الدولة في ماذا يريد السودانيون في عاليه، ويجب ألا يترك أمر إعادة بناء (وليس إصلاح.. واخد بال حضرتك) هذه الأجهزة الأمنية للقادة العسكريين وكفى فهذا أمر يهم كل السودانيين ومن صميم حقهم في رسم وتحقيق إعادة البناء وفق هذه الرؤية للدولة السودانية الحديثة.
يجب أيضاً أن تبدأ عملية إعادة بناء مؤسسي للخدمة المدنية بشكل عام وبالأخص الأجهزة العدلية من قضاء ونياية، أعتقد أنه يجب أن تكون النيابة العامة من صلاحيات وزارة العدل بدلا من جعل وزارة العدل مجرد مستشار للحكومة، ففكرة استقلال القضاء هي مبدأ وليس مسألة وظيفية، ففكرة عدم تبعية النيابة العامة لوزارة العدل أو أن يكون وزير العدل هو النائب العام لا تعني بالضرورة استقلالية النيابة العامة، الاستقلالية هي ثقافة وسلوك مؤسسي يحتاج إلى توطين.
هنالك أيضاً مهام مثل قيام التعداد السكاني والتوافق على قانون انتخابات. لا أعتقد أن تجاربنا السابقة بقيام جمعية تأسيسية لتؤسس لدستور دائم كانت مفيدة بل أعتقد أنها كانت عقيمة ومن أسباب تعثر الانتقال، ولذا أعتقد أننا يجب أن نتوافق على دستور دائم أو مبادئ دستورية على الأقل قبل الذهاب إلى انتخابات عامة، يمكننا إجراء انتخابات على مستوى المحليات لإكساب السلطة الانتقالية شرعية التمثيل وللتدرب على العملية الانتخابية ولفك الاحتقانات السياسية.
في ظني أننا إزاء فرصة تاريخية للمرة الثانية للتوافق على إعلان دستوري تأسيسي للجمهورية الثانية، هذه الفرصة كانت متاحة في أعقاب 30 يونيو/حزيران 2019، والتفاوض الذي أنتج الوثيقة الدستورية كان يكفيه لو أنه أنتج إعلاناً دستورياً يؤسس لسلطة انتقالية تنتهي بالتوافق والاستفتاء على دستور دائم، ومن ثم الذهاب إلى انتخابات بعد اكتمال مهام المرحلة المذكورة في عاليه.
في هذه اللحظة لا أعتقد أن هنالك قيادة مؤهلة أخلاقياً وتتمتع بالقدرة على تمثيل كل قوى الثورة دون الوقوع في أمراض السودان المعروفة (ليه جبت ديل ممثلين للجان السيسبانة والاختارهم منو)، مشكلة التمثيل تُحل عادة إما بالانتخاب أو بالتراضي والتوافق، وبما أننا لسنا في موضع إجراء انتخابات فيجب أن نسعى إلى التراضي والتوافق، عليه أظن أننا يجب أن ندعو إلى قيام حلف ثوري ديمقراطي تأسيسي من القوى التي لها مصلحة في توطين واستدامة الديمقراطية، على أن يسبق هذا الحلف تطوير إعلان دستوري، وفقاً لما ورد في "ماذا يريد السودانيون؟"، على أن يتضمن هذا الإعلان شروطاً تأسيسية كما وردت في بيانات لجان المقاومة المختلفة، على شاكلة خروج الجيش والعسكر من الحياة السياسية، وتأسيس سلطة مدنية انتقالية كاملة، وتحديد جدول زمني ورؤى وبرنامج لتوحيد الجيوش، وفق عقيدة محددة أساسها "ماذا يريد السودانيون؟"، والشروع في نقل ملكية الشركات المملوكة للجيش والأمن والجيش والشرطة لوزارة المالية، على أن يُقرر المجلس التشريعي ماذا يجب أن تفعل الدولة بهذه الشركات، سواء استمراريتها أو تحويلها إلى شركات ملكية عامة أو خصخصتها.
الحلف سيقوم على أساس "ماذا يريد السودانيون؟"، أي البرنامج هو أساس الوحدة، وليس كإعلان الحرية والتغيير، الذي كان أساسه إسقاط نظام المخلوع البشير، مع العلم أن إسقاط النظام هو نقطة تحالف سلبية، تتعلق بإنهاء دولة الظلم وليس بالضرورة حول رؤية استشرافية للمستقبل.
في تقديري يجب أن يتم طرح هذا الإعلان الدستوري للجميع، وإجراء حوار حوله، ودعوة كل القوى السياسية والنقابات، واتحادات العمال، ولجان المقاومة، وبقية منظمات المجتمع المدني، من غرفة تجارية وأندية رياضية وطرق صوفية، للحوار والتوقيع عليه، وعقد اجتماع أو مؤتمر موسّع لتصعيد قيادة تكون هي القيادة التأسيسية للجمهورية الثانية، وإعلانها الدستوري هو الإطار العام للمشروع الوطني، الذي ظلّ غائباً في السياسة السودانية.
هذا الإعلان هو بمثابة الأجندة الوطنية التي تقدم بها السودانيون من مختلف قطاعاتهم ومناطقهم وأعراقهم، نساء ورجالاً، وعلى الحكومة الانتقالية العمل على إنفاذه، وإذا طال أمد المقاومة لهذه المجموعة الانقلابية فهذا الإعلان الدستوري نتمنى أن يكون هو برنامج عمل المقاومة ومشروعها الوطني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.