حين كنت أستعد للسفر إلى القاهرة كنت أستفسر من صديق عاد قبل أيام من هناك إن كان مطار القاهرة يعترف بشهادة الكوفيد الأوروبية؟ فأجاب بنعم، ثم أضاف ضاحكاً أن المشكلة ليست في دخول مصر، ولكن في الخروج منها. ويبدو أنه شعر بالاضطراب في سؤالي إن كان قد جدّ جديد وأنا لا أعرف. فقال لا. أنا فقط أعابثك.
وفي صباح يوم الإثنين الماضي ذهبت إلى مطار بروكسل. وما أن تدخل المطار حتى تجد شاشة ضخمة عليها كل رحلات الطيران ورقم الممر الذي ستسلم فيه شنطة السفر لمسؤولي مصر للطيران. ذهبت مباشرة للممر رقم سبعة فرأوا الجواز والتذكرة وشهادة الكوفيد الأوروبية وأخذوا الشنطة. كل هذا في دقيقتين لا أكثر وأعطوني تذكرة دخول المطار عليها رقم البوابة ورقم الكرسي في الطائرة.
اتبعت علامات السير حتى نقطة التفتيش الوحيدة للمسافرين. فخلعنا كل شيء معدني ثم الجواكت والأحذية ووضعنا كل هذا في سبت ماكينة التفتيش ثم قاموا بتفتيشنا يدوياً رغم أننا نمر من البوابة الإلكترونية، والطريف أن من يفتش يسأل كل شخص إن كان يسمح له بتفتيشه. وكان حظي أن ستفتشني موظفة شابة، وكنت أنتظر أخيراً تلك التجربة التي لم أمر بها من قبل، ولكنها للأسف سلمتني لزميل لها واهتمت بالمرأة التي خلفي. وبعد أن لبسنا ما كنا قد خلعناه وقفنا أمام شباك ضابط الأمن البلجيكي كي يراجع الجواز والتذكرة والإقامة ثم ذهبنا إلى حيث الطائرة التي لم يتغير الكثير مما اعتدناه بداخلها.
**
وفي الثامنة مساء وصلنا مطار القاهرة. وكان الدخول سلساً كالعادة، والحقيقة لا يوجد أسهل من دخولي إلى مصر. وفي المطار رأوا بالفعل شهادة الكوفيد الأوروبية وكانوا يعرفونها بالطبع. لم يكن المطار مزدحماً فوقفنا أمام شباك ضابط الأمن المصري، وهم دوماً من أكثر الناس لباقة ولياقة، معي على الأقل ودائماً ما أتمنى ألا يريني الله وجههم الآخر.
المهم جرت الإجراءات بسلاسة، ووجدت الشنط سريعاً، وعندما خرجت وجدت السيارة تنتظرني وبها اثنان من شباب العائلة اليافع تعودا منذ زمن على اصطحابي من المطار ودائماً ما أستفيد بحديثهما حتى كرداسة.
وكانت أول جملة قالاها وعلقت بذهني أن السنوات الثلاث التي غبتها، بسبب كورونا في الغالب، قد غيرت البلد بالفعل، وأنني سألاحظ هذا دون شك. وطوال الطريق ونحن نمر تحت الكباري الجديدة وفوقها. كأن شخصاً ما زرع الأرض كباري فطرحت وأينعت. وأغلب هذه الطرق والكباري تؤدي في الغالب إلى العاصمة الإدارية الجديدة التي فهمت أخيراً أنها لن تحل محل القاهرة التي ستبقى كما كانت عاصمة سياسية لمصر.
الطريف هنا أن المدن الغربية بدأت تتخلص من فكرة الكباري وتستغنى عنها بالأنفاق وتحول مكانها لحدائق وفضاءات عامة تزيد المدن جمالاً وإنسانية. وقد حدث هذا حديثاً في أحد أوسع شوارع بروكسل اسمه "جورج هنري". ومنذ هذا التغيير وأنا أتمشى فيه دوماً وأتريّض بسبب سعته وجماله المستجد. وهذا كما أرى عكس ما يحدث في القاهرة بالضبط. وعلى العموم نحن نعرف ومنذ زمن ما يحدث للأنفاق في القاهرة كلما أمطرت.
**
وقضيت الأيام الثلاثة الأولى في مواعيد متتالية، ولم يزعجني خلالها إلا زيارتي للبنك الأهلي الذي أصبحت المعاملة فيه أسوأ من بنك مصر قديماً. وأزعجتني أيضاً- وإن كنت أتفهم ذلك- الإجراءات الجديدة لتغيير العملة في شركات الصرافة التي تكاد تنقرض.
قبل عدة سنوات كنت أتعثر كل عدة أمتار في إحدى شركات الصرافة التي تستبدل منها العملة بأكثر مما ستحصل عليه في البنوك. وقد اختفى كل هذا الآن أو كاد! كنت في المقطم مرة فلم أجد إلا شركة صرافة واحدة غيرت منها بنفس سعر البنك. وفي ميدان طلعت حرب الذي كان محاصراً بشركات الصرافة فيما مضى لم أجد إلا شركة واحدة كانت فارغة تماماً عكس ما كان يحدث في مثل هذا الوقت قبل سنوات.
وفي كلتا الشركتين توجب عليّ ملء استمارتين بمعلوماتي الشخصية كلها مع ذكر مصدر العملة التي سأغيرها. وهذا ما حدث في البنك بالمناسبة. ولأنني كما سبق غيرت العملة بالسعر نفسه فهمت لماذا اختفت أغلب شركات الصرافة، ولا أدري كيف يواصل ما بقي منها العمل. وهذه الجملة الأخيرة ليست شكاية لأن هذا هو الطبيعي في البلاد المستقرة اقتصادياً حيث تقل شركات الصرافة جداً ويكثر التعامل مع البنوك. في بروكسل مثلاً لا أعرف إلا شركة واحدة للصرافة في ميدان "دي بروكرا" بوسط بروكسل ولا أكاد أرى بها إلا الأجانب هنا.
**
أما الأيام الثلاثة الباقية فقد قضيتها في كرداسة بين الأهل والأقارب، وكنت قد طلبت منهم ألا يخبروا أحداً غيرهم بقدومي؛ لأنني جئت أصلاً للونس والفضفضة معهم هم لا مع غيرهم. الشيء الوحيد الذي فعلته أنني ذهبت مرة إلى "الدمياطي" بجوار نادي الصيد وإلى "محمصات العروبة" بشارع جامعة الدول.
فرغم أنني تخلصت من عادات كثيرة للتسوق أثناء الزيارة إلا إنني لا أنوى التخلي عن شراء المكسرات والحلويات الشرقية خاصة من الدمياطي بعد أن أصبحت من مدمني حلوياته منذ أن سكنت بداية هذا القرن بجوار فرعه بشارع الطيران. حتى المعارف وزملاء العمل هنا ببروكسل فتنوا بالحلويات الشرقية التي اشتريها لهم من "الدمياطي".
ومن الأمور الطريفة أن أحد معارفي هنا في بروكسل ذاق هذه الحلويات مرة، وفي السنة التالية عندما علم بأنني ذاهب إلى مصر طلب مني شراء علبة حلويات شرقية مثل التي تذوقها لتكون مفاجأة لبنت يحبها تعمل في قسم آخر مجاور لقسمه بإحدى مؤسسات الاتحاد الأوروبي. المهم اشتريت له علبة حلويات وَسَط. وقد أعجبه شكلها جداً فأخذها معه لقسم البنت المملوء بالموظفين فالتهموا العلبة في أقل من دقيقتين. وآنذاك كان في القسم بعض موظفي حلف الناتو فقال أحدهم: "شيء بهذا التميز لا يمكن أن يكون من هنا". فقال لهم: "صُنع في مصر". فقال آخر متفاكهاً: "هذا سبب وجيه لتمتين العلاقات بين مصر والناتو"!.
**
خلال هذه الأيام الثلاثة كانت الأخبار والأحداث تفاجئني بطريقة غريبة. حتى الأحداث الكبرى في كرداسة لم أعد أعرف عنها شيئاً. وتذكرت أن أبي رحمه الله كان كلما كلمته أو زرته بكرداسة كان يعطيني فكرة عامة عما حدث في الفترة السابقة لأصحابي وأقربائي ومعارفي. فكنت دوماً على علم مما ساعدني على الحفاظ على علاقاتي بهم. ولكن منذ وفاته رحمه الله لم يستطِع أخي ولا أختي القيام بهذا الدور. لذا تمر الأحداث والأخبار ولا أعرف.
على سبيل المثال لم أعرف بإعدامات كرداسة إلا من الصحف ومواقع التواصل وقد قرأت الأسماء فلم أعرف منهم إلا الشيخ عبد الرحيم جبريل وكان معروفاً للجميع بسبب علمه وسنه وصلاحه. ومنذ فترة مات صديق قديم لي اسمه "عبد الناصر هليل" وأنا لا أعرف، ولم أعرف ذلك إلا خلال زيارتي هذه.
وكنت وعبد الناصر نجلس على دكة واحدة في مدرسة كرداسة الابتدائية ورأينا معاً معظم الأفلام القديمة، خاصة أفلام إسماعيل ياسين، في سينما الوحدة المجمعة بجوار تلك المدرسة. وكذلك كنا في المدرسة الإعدادية بكرداسة. وحتى عندما التحق بالمدرسة السعيدية كنا نذاكر معاً حتى نهاية الثانوية العامة. ثم ذهب هو إلى طب القاهرة وذهبت أنا إلى آداب الإسكندرية، وبعد أن حولت منها إلى دار العلوم استمرت صداقتنا معاً، ولم تنقطع إلا بعد أن انضم هو إلى الإخوان المسلمين ورفضت أنا بالطبع، ثم اندمجت في دراساتي العليا في مصر وألمانيا. وبعد وفاة أبي واستقراري في بروكسل انقطعت أخباره عني حتى علمت بمرضه ووفاته المؤسفة.
**
ومن الأشياء التي عملت بها خلال زيارتي أيضاً عملية نصب كبرى على طريقة شركات توظيف الأموال في قاهرة التسعينيات. وقد عرفت بها قدراً. ففي خطبة الجمعة كان يوجد خطيب أزهري ظريف يخطب بعامية مطعمة بالفصحى، وقد حمدت له ذلك.
المهم أن هذا الشيخ الظريف كانت له لازمة يكررها بين جمل الخطبة مهما طالت أو قصرت وهي جملة (سبحان الله). والطريف هنا أنه يكررها بنغمة واحدة فلا تعرف هل هو مع ما يسبح خلفه أم ضده كأن يقول، وهي جملة قالها بالفعل: "اسمع يا مولانا. واحد معه أولاد كثير وعنده بيت. سبحان الله. باع البيت وأجر بيت. سبحان الله. وقال إنه سيستثمر ثمن البيت الذي باعه. سبحان الله. راح لواحد من بتوع توظيف الأموال وقال استثمر عنده. سبحان الله. فكان يعطيه ربحاً شهرياً معتبراً. سبحان الله. وفي آخر السنة عملوا جرداً فوجد أنه خسر وضاعت فلوسه. سبحان الله".
هكذا في كل حكاياته. فكنت أبتسم لنفسي وأقول في سري يا شيخ لازم تحدد موقفك هل أنت مع ما تحكيه أم ضده. وبعد كل ابتسامة كنت إذا نظرت للخطيب أجده ينظر ناحيتي ونحن لا نعرف بعضنا البعض. فلما تكرر الموضوع بدأت أنا نفسي أقول "سبحان الله". المهم عندما حكيت الموضوع بين أهلي مساء قيل لي: لا بد وأنه مصاب من المصابين!
وحكوا لي حكاية توظيف الأموال التي ظهرت في كرداسة مؤخراً. وأنه عندما انهار سوق البناء تحديداً انهار كل شيء، فأخذ صاحب العملية ما بقي من أموال الناس وهرب. والآن يبحثون عنه ولا يجدونه "سبحان الله".
الطريف أن هذا اللص أراد أن يأخذ والديه إلى حيث اختفى فنفذ عملية لخطفهم كأنها فيلم سينمائي حيث بعث بعض أعوانه من خارج كرداسة فهجموا على بيته وادعوا أنهم تعرضوا للنصب وأنهم لا بد أن يأخذوا أهله رهينة حتى يظهر الهارب ويرجع أموالهم. وقد نجحت الفكرة "سبحان الله".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.