أمام الأزمة السياسية والاقتصادية الخانقة التي تشهدها تونس، بعد القرارات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس قيس سعيّد، والتي اعتبرتها أغلب النخب التونسية انقلاباً على الدستور، ومحاولة لقلب النظام السياسي وتجميع السلطات في كف واحدة.
تزايدت الأزمة بعد خطابات الرئيس، بداية بخطاب سيدي بوزيد، الذي مثل محاولة للرد على الشارع المناهض للرئيس واعتباره "مسرحية سيئة الإخراج"، في اجترار لنفس الخطاب الشعبوي المحرض على التفرقة والعنف بين التونسيين، مما جعل الدولة التونسية أمام تحديات خطيرة ومتعددة تهدد الاستقرار والأمن داخل البلاد.
حيث إن هناك سيناريوهات عديدة مقبلة عليها تونس في الأيام القادمة، هي مبهمة وضبابية وغير مؤكدة، خاصة أن أدوات التحليل في الحالة التونسية لم تعد تخضع لضوابط العلوم السياسية أو تحليل الأنظمة، بقدر ما أنها أصبحت تعتمد على العلوم النفسية والسيكو اجتماعية لقراءة ما يختلج في ذهن قيس سعيّد.
إن شعبوية قيس بن سعيّد تهدد كيان الدولة بأسرها، والتي تفرق الشعوب وتجعل من المعارض خائناً، ومن المنتقد عميلاً، ومن الصحفي الحر متطاولاً، ومن المنافس فاسداً، هذا من شأنه خلق التفرقة وخلق نوع من العداوة والحقد بين مكونات المجتمع. إضافة إلى الانحراف الخطير الذي وقع، بعد تعليق شبه كامل للعمل بالدستور والدخول بالبلاد في واقع من الفوضى والاعتباط.
حيث استولى الرئيس على السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية وأوقف أبواباً كاملة من الدستور بشكل غير شرعي وخارج نطاق الدستور: فقد أخرج مرسوماً رئاسياً (117) اعتبره فوق الدستور وغير قابل للطعن من أي جهة كانت!
إن شعبوية الرئيس التونسي، وخطاباته الهلامية غير الدقيقة، والتي ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ، تؤكد محدودية انقلابه وضعف نظره السياسي: فالرئيس يعيش عزلة داخلية وخارجية خانقة، حيث إنه يرفض الحوار مع أي حزب سياسي، ولا مع منظمات المجتمع المدني، ولا مع النشطاء السياسيين أو الحقوقيين، ويكتفي فقط باستضافة المسؤولين الكبار في الدولة كالداخلية والقضاء، بغية التحكم وفرض وجوده بهذه المؤسسات الحساسة. إضافة إلى معارضته لتدخل الغرب في شأن الدولة التونسية (أمريكا والاتحاد الأوربي بالخصوص) وافتقاده لأبسط مبادئ الدبلوماسية في التعامل مع الخارج، مما يبين محدودية مشروعه وضعف نظره الاستراتيجي.
حيث إن العقل والمنطق والواقع، يثبت أن الدولة التي عاشت عشر سنوات من الديمقراطية لا يمكن أن تعود بهذه السهولة إلى كنف الاستبداد، كما أن مؤسسات الدولة في أغلبها ذاقت نوعاً من الحرية والاستقلالية في العمل، كما هو الشأن في الداخلية والقضاء والجيش والهيئات الدستورية وغيرها، وقد رأينا ذلك في كثير من المناسبات التي أبانت عن حيادها الملموس، رغم بعض المؤاخذات على الأمن والجيش اللذان يبقيان في رفوف تكسوها الغبار إلى حدود اللحظة، في ظل غياب معطيات دقيقة حول هذا الأمر.
أبانت الأزمة السياسية التونسية على عديد من الحقائق المهمة في تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم، بل وأكدت عديد من الفرضيات التي كانت محل نقاش واسع؛ حيث تبين بالملموس أن أبرز عائق يواجه الانتقال الديمقراطي في العالم العربي هو القوة الصلبة (الجيش والأمن) وأن موقف هذه القوة من الديمقراطية واحترام القانون هو أمر حاسم في إنجاح الانتقال الديمقراطي.
العامل الثاني هو الاختلاف الأيديولوجي الذي يغذي منطق العنف والصراع اللاأخلاقي بين المكونات السياسية. ففي أزمة تونس تبين بالملموس أن تضييع الوقت في الخلافات الهامشية وتصفية الحسابات الضيقة، مقابل التضحية بالقيم الديمقراطية والاصطفاف الأيديولوجي، بدل الاصطفاف الديمقراطي، هو من أكبر التحديات التي تواجه التنظيمات السياسية على رأسها "اليسارية" منها في تونس والعالم العربي بشكل عام.
ورغم ذلك، فإلى حدود اللحظة، هناك شبه إجماع من طرف الأحزاب السياسية في تونس على رفض قرارات الرئيس، مقابل الاصطفاف غير المباشر للاتحاد العام التونسي للشغل مع الانقلاب، رغم التهميش الذي مارسه هذا الأخير على الاتحاد، إلا أن المنظمة النقابية فضلت أن تكون مع الرئيس وتدعم إجراءاته الاستثنائية "الانقلابية" على الدستور، واختارت "الاصطفاف الأيديولوجي" بدل "الاصطفاف الديمقراطي" الذي تكلمنا عنه سابقاً، خاصة أن أغلب قيادات الاتحاد لها نزعة قومية يسارية معادية للتيار الإسلامي على رأسه حركة النهضة، وما تصريحات الطبوبي الأخيرة (الأمين العام للاتحاد) برفضه عودة البرلمان، إلا دليل يقطع الشك بأن الدور التاريخي الذي لعبته المنظمة النقابية في الدفاع عن قيم الجمهورية التونسية، قد زاغ عن توجهه في هذا الموقف البعيد عن الديمقراطية، والذي "يتكيف" مع الأمر الواقع بدل "التوافق" في عملية حل الأزمة كما دأب الاتحاد في السنوات الفارطة.
يمكن القول إن تونس الآن تعرف وضعاً مصيرياً، بل قد تكون هذا الأزمة هي أخطر أزمة مرت بها بلاد ثورة الياسمين بعد 2011، والخروج منها لن يكون سهلاً على الإطلاق. ومن الواضح أن قيس سعيّد لن يتراجع عن مشروعه، حيث يبدو أن الرئيس قيس سعيّد يتبنى أحد النظريات المعروفة في علم السياسة: وهي النظرية "صفرية المجموع" أي أنه يرى فوزه بخسارة الأطراف السياسية الأخرى، وخسارته هي فوز للأطراف الأخرى، فهو يستبعد النظرية السياسية "غير صفرية المجموع" التي يتبناها عديد من علماء السياسة كبارسونز وكريك وبولانتزاس، الذين يعتبرون أن الطبقات الاجتماعية هي الفاعل السياسي الرئيس في عملية صنع القرار السياسي.
عكس النظرية الأولى التي يتبناها فيبر ولاسويل، والتي تقوم على النظرية الفردانية في التعامل مع السلطة عن طريق المقاربة العمودية في عملية صنع القرار السياسي.
وبالتالي فإن مواجهته بالبيانات والوقفات لا أظن أنها كافية لإيقافه والرجوع إلى الشرعية الدستورية، خاصة أنه كلما طالت مدة الإجراءات الإستثنائية كانت الكلفة الاقتصادية والاجتماعية باهظة جداً. وإن المراهنة على تدخل الجيش والأمن لإنقاذ الموقف قد بات بعيد المنال، بعد مرور أزيد من 100 يوم على الإجراءات الاستثنائية وما صاحبها من كوارث دبلوماسية وأمنية واقتصادية لم تشهدها تونس عبر التاريخ، خاصة مع العودة إلى "بولسة الدولة" وهيمنة المقاربة الأمنية في التعامل مع المعارضين، وبالتالي فالتعويل على ديمقراطية المؤسسة الأمنية ومؤسسة الجيش أصبحت ضرباً من الخيال.
أظن أن هناك سيناريوهين فاصلين الآن، ينتظران الشعب التونسي: السيناريو الأول، وهو الأقرب إلى التحقيق الآن، والذي ستكون مآلاته كارثية على الدولة التونسية، وهو ما يخطط إليه الرئيس التونسي: والذي يتمثل في وضع يده على القضاء بشكل كامل والذهاب باتجاه أحكام تقضي بفساد الأحزاب التي تحوز أغلبية داخل البرلمان، على رأسها "النهضة" "قلب تونس" بتهم التمويل الأجنبي وما يصاحبها من التهم التي تروم إسقاط لوائح هاته الأحزاب داخل البرلمان، تمهيداً لحل مجلس النواب بشكل نهائي، الشيء الذي سيذهب بالرئيس إلى إمكانية حل هاته الأحزاب ومتابعة قياداتها وإيداعهم في السجن. وعندئد ستكون الساحة فارغة أمام قيس سعيّد، لتطبيق مشروعه أو في أحسن الأحوال تنظيم انتخابات برلمانية بلا لون ولا رائحة، في غياب الأحزاب الوطنية الكبرى في البلاد، مما يعني السيطرة بشكل غير مباشر على السلطة التشريعية عن طريق الأحزاب الفاسدة.
السيناريو الثاني، والذي يتطلب حساً عالياً من الديمقراطية عند مكونات المجتمع، والذي تسير في اتجاهه حركة "مواطنون ضد الانقلاب"، وهو الضغط الشعبي المباشر عن طريق الشارع الذي يقوم على "ديمقراطية المطلب" وهو ما جسدته "المبادرة الديمقراطية لنفس الحركة، والتي لا تقوم على أي أساس ديني أو أيديولوجي مما جعلها أكثر شعبية وأكثر قوة في مواجهة الرئيس، فهذا الأخير كان يراهن على معارضة حركة النهضة للانفراد بها و"تمزيقها" بشكل فردي وعزلها عن المجتمع، ليكون الصراع ثنائياً يضمن به الرئيس مساندة القوى اليسارية والقومية وكذا مساندة ضمنية من طرف الغرب "أي نفس السيناريو المصري" إلا أن حركة النهضة كانت أكثر حكمة وتكتيكاً برجوعها إلى الوراء وترك الساحة فارغة، والتي جعلت سعيد في حيرة من أمره وفي مواجهة مباشرة أمام الشعب، مما جعل مسألة اللجوء إلى العنف مع الاحتجاجات أمراً غير وارد بالنسبة للانقلاب.
وبالتالي فإن الشارع هو الذي بإمكانه حتى الآن الضغط على الرئيس من أجل العودة إلى الشرعية، والرجوع إلى المسار الديمقراطي، لكن بشكل أكثر تنظيماً وأكثر قوة من السابق، واللجوء إلى أساليب أكثر فعالية (الاعتصام – المسيرات المليونية – الخروج في جميع الأقاليم والمدن) أما الاكتفاء بالوقفات فهو غير كافٍ بتاتاً، خاصة أن أي عودة للشرعية ستحتم محاكمة جميع من ساهم في الانقلاب من قريب أو من بعيد، مما سيجعل الداعمين له مستعدين للتضحية بالغالي والنفيس من أجل عدم العودة إلى الشرعية الدستورية، مما سيعقد المهمة أكثر وسيجعلها أكثر خطورة، فإما العودة للديمقراطية أو التغول والعودة إلى عصور الاستبداد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.