في السودان، وبالنظر إلى تجربة الشراكة خلال العامين الماضيين، وبعيداً عن الكثير من الهرج السياسي على شاكلة ضعف الحكومة المدنية (السابقة قبل الانقلاب)، وصغائر الأمور مثل التراشق السياسي بين أطراف قوى الحرية والتغيير، هنالك حقائق لا يُمكن الجدال حولها.
أولها أن المصالح الاقتصادية للمنظومات العسكرية والأمنية والنخب التي تدور في فلكها وتنتفع من ريعها لا يمكن أن تسمح بعملية انتقال سياسي تقود إلى نظام ديمقراطي حقيقي، يكون فيه للشعب السوداني الحق في معرفة أصوله ومقدراته وأملاكه، بما في ذلك التي تُدار تحت منظومة الصناعات الدفاعية والشركات الأمنية.
هذا هو سبب الأزمة السياسية الراهنة المتمثلة في الانقلاب على السُّلطة الانتقالية وترتيباتها الدستورية، وهذا أيضاً سيكون السبب في الانقلابات القادمة، التي هي في جوهرها أعراض لأمراض بنيوية تتعلق بطبيعة ووضعية المؤسسات العسكرية والأمنية وعلاقتها بالدولة والسياسة.
ضرورة "المفاصلة السياسية"
وفي حقيقة الأمر، مواجهة المؤسسات العسكرية والأمنية لا بد لها من عملية مفاصلة سياسية، إذا ما كان للسودان أن يؤسس تجربة ديمقراطية حقيقية، وإذا لم نقم بذلك الآن فهذا يعني محض تأجيل لهذه المواجهة، فالظرف مواتٍ للقيام بهذه المفاصلة الآن، وهي مفاصلة سياسية كاملة، مقتضاها خروج القوات النظامية من الحياة السياسية مرة واحدة وإلى الأبد. والظرف سياسي بامتياز، إذا ما فعلنا ذلك بإمكاننا معالجة الأمراض البنيوية بدلاً من التركيز على الأعراض المؤقتة مثل انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول.
الآن عاد د. حمدوك وفقاً لشروط التحالف الانقلابي، ودون أدني اعتبار لتطلعات السودانيين الذين خرجوا في المواكب في كل شبر من هذا الوطن وهتفوا للحرية والعدالة والسلام، واختنقوا بالغاز المسيل للدموع، واستقبلوا الرصاص بصدورهم العارية في مليونيات يوم 21 أكتوبر و30 أكتوبر و13 نوفمبر و17 نوفمبر، وقدموا ما يزيد على الـ45 ضحيةً على أقل تقدير.
فهذا يعنى أمرين: أولهما أن رمزية حمدوك، ودوره في قيادة الثورة السودانية إلى سِدرةِ مُنتهى تطلعاتِها قد شارفت على الانتهاء، وثانيها أن من يُفكر ويصنع هذه التسويات ليس له أدنى معرفة بما يدور في صدور السودانيات والسودانيين في هذه اللحظة من غضب وأسى وحلم بالمستقبل.
وإذا ترجل وذهب حمدوك وجاء من يقبل بشروط العسكر فسيكون مصيره نفس المصير. ثورة ديسمبر/كانون الأول تجاوزت الشخوص والرموز إلى الحلم في رسم ملامح دولة تحقق المواطنة المتساوية وتصون الحقوق وتحفظ الكرامة.
ثم ماذا بعد؟ تمت هذه التسوية الخاسرة وستكون واجهتها المدنية فاشلة وقصيرة الأجل لا محالة، ميدانياً ستتواصل المسيرات والمواكب وكافة أفعال المقاومة الثورية، لأن هناك حلماً بحياة كريمة، ولأنه ليس هنالك حياة أصلاً.
ثورة ديسمبر/كانون الأول، أعادت تعريف معنى الحياة لجيل كامل مع الأخذ في الاعتبار أن السودان مثل بقية القارة الإفريقية يختبر ظاهرة ديموغرافية لأول مرة في تاريخه، حيث إن غالبية سكانه هم من فئة عمرية ما بين 15 إلى 40، ومع الأخذ في الاعتبار أن الخليج انتهى كخيار وأوروبا والذهاب إلى الذهب ليس سوى أحلام أسطورية نادراً ما تصدق، ليس هنالك أمل سوى بناء هذا الحلم، وفي هذه الأرض التي هي لنا كسودانيين وسودانيات.
ماذا سيفعل الانقلابيون؟
بحمدوك أو بغيره، كان هذا هو السبيل الوحيد للبرهان وبقية التحالف الانقلابي، لتأسيس نظام سياسي جديد حتى ولو أتوا بشق من حزب الأمة (فضل الله برمة ناصر) مهندس صفقة البرهان، بالإضافة لشق من حزب مولانا الميرغني.
المتوقع هو عنف واسع كما أشرنا لذلك في مقال سابق، هذا العنف له احتمالان: الاحتمال الأول هو أن يكون عنفاً منظماً وبتعتيم إعلامي، هذا للأسف يُمكن أن يحدث في السودان إذا ما صرف العالم النظر عما يحدث، أو حدثت أشياء كبرى في مكان ما مثل انهيار الدولة في إثيوبيا. هذا السيناريو سيضمن استمرار مصالح المنتفعين وموت المقاومة إلى حين إذا ما تمكن التحالف الحاكم من المحافظة على تناقضات المصالح التي تعج في أوساطه.
الاحتمال الثاني وهو رهين بفشل الاحتمال الأول، أن التحالف الانقلابي قد يتعرض لضغوط دولية وتصدعات داخلية، مثل خروج بعض القوى الموقعة على اتفاق جوبا، ما يعنى عودة الحرب، وربما لجوء البعض إلى صيغةٍ ما لعمل مسلح!
في هذا الاحتمال ستمضي دولة الكارتيلات في خلق وضعية شبيهة بما يحدث في الكونغو، حيث مجموعات مسلحة تسيطر على الذهب، وأخرى تسيطر على الثروة الحيوانية، وأخرى تسيطر على السمسم، وأخرى على الصمغ العربي، وتخرج الدولة بالكامل من فعل أي شيء خدمي من تعليم وصحة وشرطة ودفاع، وأي شيء للمواطنين، وتحل محل الدولة مجموعة شبكات تجارية ذات علاقة بهذه الكارتيلات، تقوم بكل شيء على شاكلة الصومال التي تمثل نموذجاً لدولة اللادولة.
هذا النموذج قد يبدو غريباً للبعض الآن، ولكن هنالك مؤشرات عن تراجع الديمقراطية الليبرالية في أمريكا وفي بولندا وفي المجر، هنالك مؤشرات أننا قد نكون أمام عالم مغاير في أقل من أعوام، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا والتحولات الكبرى التي يشهدها العالم في مسائل خطوط الإمداد وغيرها.
خلاصة القول إن هذه محض قراءات وسيناريوهات، وليس على الفرد سوى العمل على ترجيح السيناريو الأمثل وترك الأمور التي خارج قدرته وطاقته للتاريخ والمشيئة الربانية.
السيناريو الأمثل هو العمل على تأسيس دولة سودانية على أساس المواطنة المتساوية، وبمشروع وطني نهضوي قوامه العدالة الاجتماعية والعدالة النوعية، ويعبر عن قطاعات عريضة من السودانيين والسودانيات.
مثل هذا المشروع لا يمكن أن يتأسس بتسوية لا تقود إلى انتقال ديمقراطي حقيقي، حيث إن التجربة العملية علَّمتنا أن السودان ليس له خيار آخر، إما أن يكون دولة ديمقراطية موحدة أو ألّا يكون البتة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.