في عز تألقه سُئل الموسيقار محمد عبد الوهاب عن رأيه في كثير من الفنانين والفنانات المشهورين على الساحة آنذاك، فكان يصف كل واحد منهم بما يراه، غير أن أحدهم باغته بسؤال ملغم: ولكنك إلى الآن لم تعطنا رأيك في السيدة فيروز؟
فكانت إجابته: كل الأسئلة التي وجهتموها إليَّ مشروعة لأنها متعلقة بأهل الأرض، أما وإنكم سألتم عن فيروز فإنا لا أقيّم الأصوات التي تأتي من السماء!
فيروز التي وُلدت في مثل هذه الأيام، قبل 86 عاماً، حباها الله بصوت مخملي شق طريقه وسط وجدان الملايين، يحمل في طياته أملاً لأولئك الذين قتلهم الشوق أو أوشك، ودفئاً لأصحاب القلوب المعذبة وحناناً تأوي إليه النفوس المؤرقة، وشباكاً خلفياً لتناسي الوجع، وباباً واسعاً لاستقبال البشر والتفاؤل.
تجولت بروحي في زوايا مدينة القدس وأنا أستمع إليها في رائعة "زهرة المدائن"، وأرسلت ولا زلت أرسل قبلة إلى القاهرة من هنا حيث أقبع بعيداً عن مصر كلما استمعت إلى رائعة "مصر عادت شمسك الذهب"، وتجولت في شوارع عمان العتيقة كلما استمعت إلى رائعة "أنا والمسا والأردن"، وهربت مني روحي بعيداً إلى ذلك المكان الذي تهفو إليه النفس دوماً كلما استمعت إلى "يا زمان الوصل بالأندلس".
تصح السيدة فيروز ببساطتها، وتواضعها، في الكلم والملبس والسكون والحركات أن تكون مثالاً وقدوة لأولئك الذين يحاولون أن يقنعونا بأن الجمال لا ينفك عن التعري والإباحية، والإطلالة المميزة يلزمها ثياب فخيمة مرصعة بالذهب والألماس، كما فعلت فنانة لبنانية وخرجت علينا قبل سنتين تقريباً بفستان مرصع بالألماس بلغت تكلفته 10 ملايين دولار.
وتصح أن تكون نموذجاً لأولئك الذين يتصورن أن الوصول إلى أكبر شريحة من الجمهور مرهون بـ"التطبيل" والنفاق، إذ كانت كلما دعاها ملك أو أمير أو رئيس أو وزير لتغني في قصره كانت إجابة رحباني: لا تغني القيثارة في القصور بل في أماكن فنية محترمة!
لدرجة أن أزمة كبيرة حصلت بين لبنان وتونس إثر امتناع فيروز عن الغناء أمام الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة على ما أعتقد، الأمر الذي اضطر رئيس الوزراء اللبناني حسين العويني أن يمنع بث أغانيها في الإذاعة، وبسببها دخلت فيروز في أزمة نفسية كادت أن تقضي عليها.
فارقني قلمي وولى هارباً يكتب عن قيثارة السماء، جارة القمر، في وقت يطل علينا القبح من كل مكان، في محاولة بائسة لإقناع فاقدي الذوق، ومعدومي الإحساس بأن الشكل الظاهري ليس له علاقة بشهرة الفنان وكفاءته، لا سيما وأننا نشاهد قصصاً سخيفة بطلاتها أدمنّ الغناء بصدورهن، والطرب بسيقانهن، وانتفاخ مؤخرتهن.
ولى القلم هارباً يكتب عن صوت يعكس جمالاً، ورقياً، وذوقاً، ينبئ صاحبه بأن بداخله إنسان في ظل فوضى المنطق التي تحيط بنا من كل جانب ومن ملامح ذلك تسلق كائنات ذات هيئات تشبه البشر على سقف أخلاقنا، وجدارنا الفني، تفسد الذوق بكلمات منزوعة الحياء، وألحان تبعث على التقيؤ، يساعدهم على الانتشار والتوغل شباب فقد البوصلة، ومحاضن تربوية تغذي الخلاعة والمجون!
قديماً لم تخلُ الساحة من أغانٍ هابطة، وألحانٍ نازفة، غير أن المجتمع نفسه فضلاً عن الدولة كان حارساً على بعض القيم التي تحفظ للناس ماء الوجوه، على خلاف الحاصل الآن؛ فقد أضحى الفن الهابط ينسج خيوطه على إرث قديم رائد.
إن أخطر ما في الفن الهابط والمسخرة التي نحياها الآن أنه فرض نفسه علينا، فقد دخل البيت عنوةً، واقتحم وسائل المواصلات بالقوة، بل حتى في مناسباتنا المختلفة.
من ضمن الأمنيات التي أتطلع إليها وضع حد للعته المنتشر بيننا وحد لظاهرة تكاثر الطفيليات الغنائية، وأن يكون هناك عقاب للابتذال بدءاً من صانعه مروراً بناشره.
أين مَن يخاطب الحسّ الإنساني ويعزز مقومات الارتقاء بالذوق، ويتعامل معنا كآدميين ميزنا الله عن باقي المخلوقات؟
أدرك أن انتشار ما يسمى المهرجانات التي تحمل ألفاظاً ماجنة خليعة ما هو إلا انعكاس للثقافة السائدة والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يعيشها البلد. لكن المؤسف أن كثيراً من أصحاب الأصوات الجميلة، والذوق الرفيع فشلوا في الاختبار، وركبوا الموجة حباً للمال، واستعجالاً للشهرة المتوهمة، فشاركوا في إفساد الذوق العام، ورسخوا قيماً سلبية، فضاع الجمال في دهاليز القبح، وغاب البهاء في غياهب العري، وبين هذا وذلك يئن العفاف، وتتوارى الفضيلة!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.