ذات مرة قرأت مقالاً عن موقف حدث مع كوكب الشرق أم كلثوم. روى الكاتب أنها في ذات مرة غنت في حفل، وكان حفلاً رائعاً أطربت مسامع الجميع بأجمل الألحان، ولكن غالباً تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ففي أثناء الحفل، تلفظ أحد المعجبين بلفظ نابي وألقى بوابل من عبارات الحب والهيام بشكل غير لائق على مرأى ومسمع من الجميع، كان موقفاً غير متوقع، وكان للسيدة أم كلثوم حق الاختيار بين ردود فعل عديدة، إما أن تبتسم في خجل، أو أن تتجاهل ما قال ذاك اللئيم وتستمر بالغناء، أو أن تردعه حتى لا يتجرأ أحدهم على تكرار الموقف.
واختارت سيدة الغناء العربي الاختيار الثاني، فتوقفت عن الغناء لبرهة، وقالت وهي توجه عباراتها إليه: "تصدق بالله يا حضرت.. حضرتك شنبك متربي أحسن منك!".
وهنا تقوقع الرجل مكانه وشعر بمدى دناءة فعله ووقاحته، ولم نسمع بعدها عن تكرار تلك الواقعة.
الكثير منا في تعامله مع الوقحين يختلط عليه أمره، فيخلط ما بين الطيبة وقلة الحيلة، والكثير منا يخلط بين الحزم والافتراء. سبحان الله حتى الوقحين أنفسهم، يفتقرون إلى التمييز أيضاً.
دعني أخبرك من خلال الموقف السابق أن هناك فرقاً شاسعاً بين الطيبة، وهي أن تكون في موقف قوة أو قدرة وتختار المغفرة والمسامحة بعد أن يعلم الطرف المخطئ قدر خطئه، وبين قلة الحيلة فهي التغافل عن الإساءة لضعف موقفك تجاه المخطئ أو الخوف من ردة فعله.
أما القوة والحزم، فهي القدرة على استرداد الحق وردع المخطئ رغم عدم تساوي القوة، تختار ردع المخطئ حتى وإن ارتعدت أطرافك من فرط خوفك، بينما الافتراء أن تختار استعراض القوة على من لا حول له ولا قوة لمجرد أنه لا يقوى على مواجهتك.. لا يستويان!
العجيب فينا نحن البشر أننا كثيراً ما نخلط المفاهيم وندعي البطولة وقتما استوجبت المسامحة، وندعي التسامح وقتما وجب الحسم.
أحياناً، لابد أن يرى الأشرار لك مخلباً ليتوقفوا عن أفعالهم ولا عيب في ذلك، وكلما نسيت هذه الحقيقة أتذكر تلك الحادثة التي حدثت معي منذ سنين.
فمنذ سنوات حينما تلقى زوجي عقداً للعمل بالخارج، وتجولت شهوراً وشهوراً بين المحاكم ومكاتب التوثيق سعياً لاستخراج أوراق الاستقدام، ومن فرط التعب قررت الاسترخاء ليوم واحد كان شديد الحرارة قبل معاودة استكمال رحلة استخراج أوراق السفر.
ويشاء القدر أن يحدث حريق هائل حيثما كنت أذهب بشكل يومي لاستخراج أوراقي. حمدت الله على سلامتي وأني لم أذهب يومها، ولما ذهبت اليوم الذي يليه حيث تقبع مكاتب التوثيق، أخبروني أن حصيلة شقائي شهوراً من السعي لاستخراج الأوراق المطلوبة لم تعد صالحة، لأنهم باختصار غيروا القوانين، وعليّ أن أعيد تقديم الأوراق وأعيد الخطوات من جديد!
لم أتمالك نفسي من فرط الغضب والقهر والبكاء، وصرت أصيح كالأسد الجريح: "لن أخرج من هذا المكتب قبل أن أستخرج أوراقي، كلها… الآن. لقد حجزت التذكرة ورتبت أموري أني سأسافر خلال أيام.. لن يمكنكم تعطيلي. لن توقفوني.
سأسافر لزوجي خلال أيام. وأنت يا هذا، سوف تمضي أوراقي الآن. ليست مشكلتي أنهم غيروا قوانينهم، وليست مشكلتي أنهم قرروا أن قوانيهم لم تعد تعطل مصالح الناس بما يكفي، فابتكروا طرقاً جديدة لعرقلة مصالح الناس، ستمضون أوراقي…الآن… الآن".
وأخذت أضرب بكلتا يدي على المكتب في هيستريا أقرب للجنون. لم أصدق ما فعلت ولم أدر بما فعلت إلا عندما لاحظت وجوه الموظفين السانحة المتأملة أمامي بين إشفاق وخجل من كتمان الضحك.
شعرت بنفسي كغوريلا جامحة، قررت أن هذا العالم ظالم بما يكفي ليمنعها أن تحيا فيه بسلام ودون ضجيج، فقررت أن تزأر في غضب أتظنون أنني كائن ضعيف تهاون في حقه ليترك لكم الحبل على الغارب؟
سبحان الله، مرت دقائق وحاولوا تهدئتي وذهب أحدهم وعاد بأوراقي كاملة ممضية وتركني أرحل في هدوء منهم وعدم تصديق منّي.
ويبقى سؤالي: لم علينا أن نطلق غوريلاتنا على الظلمة حتى يتوقفوا عن ظلمهم؟ لم علينا أن نخرج الغوريلات بدواخلنا حتى يتوقف اللئام؟
لم لا تتركون الغوريلا نائمة؟ اتركوا الغوريلا في حالها يرحمكم الله!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.