كطبيب مصري، يمكنك أن تتوقع أني كنت متفوقاً بمعايير المنظومة، لكني لم أقتنع يوماً بطريقة التقييم. قدراتي الذهنية ليست استثنائية بل محدودة مقارنة بمعظم البشر، أدرك ذلك كطبيب نفسي؛ لماذا لم أفقد درجة واحدة في الرياضيات في أي مرحلة دراسية؟ لماذا ضعفت قدراتي الحسابية بدخولي كلية الطب، بعد هواية حل كتب الرياضيات "التعجيزية"؟
تعلمت في مدارس حكومية، وليس لهذه المنظومة علي فضل ولا منة في أي شيء وصلت إليه في مجالات مختلفة، تتنوع بين الطب والفن والإعلام والبرمجة والتصميم والرياضة، وليت أبي وأمي بارك الله في عمرهما وجزاهما عني خيراً، كان بمقدورهما مادياً تعليمي في بيئة أفضل. لم تعلمني المدرسة الخط العربي، لكن أستاذ سيد تطوع وتبناني في الإعدادية وعلمني النسخ والرقعة والديواني. علمني أستاذ سعيد النحو والصرف والتجويد في الثانوية، وأدين له بحسن قراءة كتاب الله ومن ثم إتقان الفصحى كتابة وتحدثاً. هكذا في مختلف المراحل رزقني الله شخصاً يروي جزءاً من شغفي – استثناءً.
تساءلت: لماذا لا يستطيع مدرس "الحاسب الآلي" إجابة أسئلتي في البرمجة؟ لماذا اكتفى هو وغيره – ممن يفترض بهم الخبرة التقنية وحمل ورقة المؤهل الأكاديمي – بالتدريبات البدائية المقررة، التي تنتهي بأن أكتب "Hello World"؟ لماذا لا يزالون يبدأون إلى اليوم بدراسة جافا في الجامعات الحكومية كمدخل لعلوم الحاسوب؟ لماذا عليّ أن أحفظ مئات التواريخ كمعيار لتفوقي في التاريخ؟ تجربتي التعليمية مليئة بالكوابيس التي لن أسمح أبداً أن تتكرر مع ابني، مهما كان الثمن الذي سأدفعه.
لماذا صارت تلك المناهج العقيمة التي لم تخضع لمراجعة منذ كان والدي أو جدي في المدرسة صنماً تُعبد من دون الله؟ وعلى أي مقياس علمي وضعت؟ إن هذه المناهج وطريقة تدريسها هي المتسبب الأول في اضمحلال القدرات الإبداعية لمواطني دولة مهمة يجاوزها تعدادها السكاني المئة مليون نسمة، وسأوضح ذلك عملياً وعلمياً.
عملياً، في 2013 عندما كنت في فريق TEDx جامعة طنطا، استضفنا الطفلة "سلمى وجيه"، الموهوبة في الرياضيات بشكل يمكن تقديمه إعلامياً تحت مسمى "الطفلة المعجزة"؛ فازت بلقب الطفلة الأذكى في العالم في مسابقة الرياضيات الذهنية في ماليزيا، متفوقة على 3000 متسابق من مختلف دول العالم، واستضفنا "إيهاب عصام" الذي بدأ عمله كمطور ويب وأندرويد في الثامنة، وأصبح رائد أعمال في السادسة عشرة. عقدت مقابلة مع الاثنين ومع والدي سلمى، وفي الحقيقة لم يكونا "معجزتين"، لكن استثمر والداهما وقتاً وجهداً ومالاً في تعليم غير نظامي لغرس هذه المهارات وإنمائها، وهذان مثالان لا حصرٌ ولا استثناء.
يرتكب الآباء جُرماً غير مقصود في مرحلتين عمريتين، الأولى في سن الحضانة أو ما قبل المدرسة بإغراق مخ الطفل بمهارات تعليمية ليصبح مؤهلاً لـ"مقابلة" المدرسة الخاصة أو لا يتأخر دراسياً في المدرسة الحكومية، التي ستدمر قدراته الذهنية لاحقاً. والجرم الثاني هو تلك المدرسة التي ستدمر قدراته الذهنية لاحقاً.
علمياً، منذ 40 سنة، درس البروفيسور "كين هوبكنز" وزميلته "جلين براخت" نمط نمو مؤشر الذكاء IQ لدى الأطفال في الولايات المتحدة، ووجدا أن هذا المؤشر يتذبذب في البدء، ثم يبدأ في الاستقرار والثبات في السنة الرابعة من التعليم الأولي، ليصل إلى الثبات التام مع الاقتراب من العام الحادي عشر من عمر الطفل. دون تعقيد علمي، يمكن النظر إلى مخ الطفل في هذه المرحلة كعجينة مرنة تجف ويزداد تشكيلها صعوبة بمرور الوقت؛ وهذا هو العكس تماماً مما يعتقده معظمنا.
هل يعني هذا أن بإمكان طفل المدرسة التعرض لمستويات أعقد من التعلم وينجح؟ نعم؛ انظر إلى الطفل جوارك في حمام السباحة أو في ساحة الفنون القتالية، وقارن بين مرونته وتوافقه العضلي وبينك. قارن بين تفوق طفلك في ألعاب الفيديو وبينك، ابدأ ممارسة السباحة مع طفلك تحت إشراف مدرب واحد وأعدك أنه سيتفوق عليك، إن كانت قدراته الذهنية متوسطة أو أعلى.
هل تعرف "التفاضل والتكامل"؟ بإمكان الطفل في سن التعليم الأولي إتقان منهج جامعي في التفاضل والتكامل، وهذا ما أثبته باحثون أستراليون أخضعوا 108 أطفال في بين 10 سنوات و12 سنة، لمنهج السنة الأولى في الجامعة، بتطوير تطبيق حاسوبي تفاعلي يناسب طبيعة هذه المرحلة العمرية، وكانت النتيجة حصول 97 طالباً على درجة النجاح، وتفوق 38 طالباً بدرجة تجاوز 80%.
في علم الأعصاب، يستخدم الأطباء تقنية Neurofeedback لمعالجة تشتت الانتباه عند الأطفال والكبار؛ استجابة الأطفال لهذه التقنية إيجابية بدرجة لا تقارن أبداً بالبالغين، لأن "العجينة" لا زالت قابلة للتشكل.
نصيحتي لمن يحتاجها: ابنك قد يكون أهم استثمار في حياتك، وهو أفضل ميراث تتركه من خلفك لهذا العالم، وحسن تعليمه وتربيته (وتربيته مجدداً) يستحقهما هذا الضيف الجديد، الذي لا يملك القدرة على الاختيار وفوضك نيابة عنه حتى يعقل، فأحسن له الاختيار.
ولست هنا أدافع ولا أهاجم النظام التعليمي الجديد، لكن لا أخفي سعادة بما يحاول فيه وزير التعليم من تغيير تحت سقف الممكن، رغم تهالك المنظومة وعدم تأهيل المدرسين …الخ، وأرى أن الفساد المحاصر لهذا الضوء أولى بالهجوم والتفكيك.
لن يستفيد ابنك ولن يفيد عندما يتخرج من كلية علوم الحاسوب، مثلاً، ثم تراه يعمل في توصيل الطلبات أو في كشك مواد غذائية، أو يجلس دون عمل، ويضيع على نفسه مكاسب ضخمة، فقط لأن عمره انقضى في منظومة لم يتعلم منها ما يؤهله للعمل بمؤهله!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.