لا أدري حقاً هل الوحدة مفيدة في حد ذاتها؟ أم أنها تقتل صاحبها كل يوم؟ هل الراحة في وضع الوحدة تختلف بين شخص لآخر؟ هل نجبر على الوحدة أم أن شيئاً ما خارجنا يسوقنا إليها؟
في السنوات الأخيرة ارتبط مفهوم الوحدة بمرض الاكتئاب، حيث ينعت من يرى قريباً أو صديقاً له منغلقاً على نفسه، أي في وحدة، بالمكتئب، ويحاول على قدر المستطاع أن يخرجه من تلك الحالة، لكن هل هذه النظرة للوحدة صحيحة؟
تعريف الوحدة
الوحدة هي حالة ينفرد بها الشخص إما بجسده أو بعقله، فيكون رافضاً لوجود أي أحد في حياته، يستمتع بتلك الحالة حتى ولو كان سبب انفراده ألمه؛ لأنه يؤلمه أكثر وجود الناس من حوله. في بعض الأحيان، يكون هذا الانفراد حالة من التعافي اللاإرادي الذي يكون كردة فعل للجسم لحماية نفسه من أي عوامل خارجية تؤثر عليه بالسلب، وتقلل من أي هجوم عليه، فيرفع ذلك من وتيرة التعافي للشخص، فلذلك نرى كثيراً من حالات الوحدة التي تنتهي بعد فترة وجيزة، ويعود الشخص إلى حالته الطبيعية الاجتماعية.
لكن هل الوحدة دائماً ردة فعل دفاعي للجسم أم هناك أنواع أخرى للوحدة؟
أنواع الوحدة التي شاهدتها في حياتي، وأسبابها:
- الوحدة الجسدية:
هي أن ينأى الإنسان بنفسه عن الناس جميعاً، يكره أن يقترب منه أحد، حتى ولو كان أقربَ الأقربين إليه؛ والداه، إخوته وأصدقاؤه، يبغض سماع أي صوت حوله، يود أن يبقى في هدوء دائم، يفضل أن ينام كثيراً، يمارس ما يشابه ثبات الدب القطبي.
أسبابها:
- جرح دفين داخل الشخص ولا يستطيع التعبير عنه.
- الفشل بعد الرغبة العارمة في النجاح.
- الخذي ممن حوله بعد وضع الثقة الكاملة فيهم.
- الوحدة العقلية:
هي وحدة الأفكار والمعتقدات، حيث يقوم الشخص بالتواصل مع من حوله بجميع جسده، لكنه دائماً يشعر بعزلة فكرية، يشعر أن لا أحد يفهمه، لا يظهر هذا للعلن، في طياته نوع من الازدراء لمحيطه. لا يجد نفسه سعيداً بمفرده دائماً، لكن الجلوس منفرداً يعطيه نشوة خاصة، يشعر حينها أنه ملك لأفكاره مبتعداً عن آراء الناس المعاكسة لأفكاره.
أسبابها:
- الصدمة الثقافية عند السفر لبلد غريبة عن مجتمع بلده الأصلي.
- الإيمان أن ما عليه هو الصحيح والآخرين مخطئون.
- الثقة في النفس الزائدة، والتي تصل إلى بعض الأحيان إلى الغرور.
- الوحدة الاجتماعية:
هو أن ينطوي الشخص بعيداً عن الناس، لا بسبب ألم أو وجع يشعر به، بل لأنه يجد راحته بعيدة عن أي شخص، حيث مساحته الخاصة لها قدسية من نوع فريد، يتعامل فقط مع المحيط الآمن له، كالوالدين، أو الأخوة، أو الأصدقاء، بحيث يكونوا في دائرة الأمان الخاص بالشخص، ويكون تعود على وجودهم من زمن بعيد.
أسبابها:
- كبت المشاعر عندما كان صغيراً، والخوف من إظهارها.
- ضرب إحدى الوالدين له بقسوة عند ارتكاب خطأ.
- منعه من الحديث وهو صغير مع من هم أكبر منه سناً، كأقارب، أو أصدقاء للعائلة.
- الغوص في العالم الافتراضي، كعوالم وسائل التواصل الإجتماعي، مبتعداً عن العالم الحقيقي، وعدم وضع توازن بين العالمين.
الاعتدال هو الحل
كما رأينا في الأنواع السابقة للوحدة وأسبابها، لكن.. ما هو النوع الجيد والنوع الذي يجب أن نبتعد منه على قدر الإمكان للحفاظ على نفسية صحية آمنة مطمئنة للفرد؟ وهل هناك علاج للأنواع الضارة؟
النوع الصحي ليس نوعاً محدداً، بل هو جميع الأنواع معاً مع بعضها البعض، ممزوجة في خليط صحيح مميز، من المتوقع أن تسألني أخي القارئ، وتقول لي: كيف؟
الخلطة بسيطة، فالوصفة الصحية هي الاعتدال في كل شيء، فالوحدة كما ذكرنا أنواع تتحدد على حسب موقف كل شخص، لكن إذا مارس كل شخص هذه الأنواع مع بعضها البعض ليصبح ذو صحة نفسية جيدة في الوقت المناسب، فلن يضره ذلك، سينفعه وسيصبح إنسان نقي من داخله. بها سيستطيع أن يواجه الخارج بقوة وعزم، لكل شخص منه وحدته الخاصة الخفية، التي يعرفها هو فقط، لكل منا آلام يتستر عليها، في بعض الأحيان أو معظمها لا نستطيع التعبير عنها، فالمشاعر تكون معقدة، متداخلة، كخيوط الحرير التي تنتجها دودة القز.
رسالة خاصة
ما يجب أن تعلمه عزيزي الشاعر بالوحدة، أنك لست وحيداً، إن كثيراً من الناس يفهمونك، لكن عليك اختيار الأشخاص المناسبين ليكونوا حولك؛ لأن الوحدة ليست دائماً جيدة، بل عندما تزيد مدتها، تتفاقم معها أمور خارجة عن سيطرتنا، كالاكتئاب، والاكتئاب يؤدي في آخر المطاف إلى إيذاء النفس.
إذا لم تستطِع مواجهة آلامك وحدك، فليس عيباً أن تحكي لمن أقرب منك، ثق في اختياراتك، ثق في التحدث مع غيرك، فلا تخف من العواقب، فسكوتك خطره أكثر عليك، فنفسك عليها حق أن تريحها، فالوحدة بحدود، تقي من أي مرض لدود.
لو ضاق بك المطاف ولم يستطِع أحد أن يؤنس وحدتك، ويخفف عنك جراحك، فعليك بالذهاب إلى أقرب طبيب نفسي، أو أخصائي معالج، فالمرض النفسي كالمرض العضوي، يحتجان علاجاً وتهيئة، العيب ليس في ذهابك لطبيب نفسي، إن العيب في إهمالك لنفسك، ومعاملتها بما لا يليق بها، فأنت تحتاج أن تخرج المشاعر السلبية لأحدهم، لشخص واعٍ، متفهم لما يمر به الأشخاص الآخرون من آلام.
فإن كنت معافى من أي ألم أو آثار سلبية، وتتأقلم مع مجتمعك بأريحية، فعليك أن تساعد غيرك ليعيش حياة طبيعية هنيئة، يجب أن تهتم بمشاعر الآخرين عبر معاونتهم، وعدم جرح مشاعرهم، فأنت لا تدري لعل كلمة سيئة من المحتمل أن تقضي على شخص ما إلى الأبد، فتنهش كلماتك فيه إلى أن تميت قلبه قبل جسده، فيؤذي نفسه أو غيره، وأنت في مكان آخر لا تدري ماذا فعلت كلماتك أو أفعالك في هذا الشخص!
فمن حق كل أحد فينا أن يعيش حياة تحتوي على صحة نفسية جيدة، ونساعد غيرنا ليتحسنوا، كلنا مسؤولون!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.