أصدر ياسر البحري أول مؤلفاته "خلف الأسلاك الشائكة: كويتي 15 عاماً في سجون أمريكا"، وهو كتاب حافل بالغرائب المذهلة، ولولا أن مؤلفه حي ومسؤول عن أقواله لما صدقنا إلا أنه ضرب من الخيال.
صدر كتاب ياسر البحري عام ٢٠١٨، وقد تم طبعه عدة مرات وقد ظهر له حديثاً كذلك كتابان آخران "إسلاموفوبيا في أمريكا" و"ألف يوم في السجن الانفرادي" وأتوقع أن تحظى كتبه الجديدة بنفس الشعبية التي حققها كتابه الأول، وأظن أن كتاباته تساهم في تصحيح نظرة إخوتنا في الكويت عن أمريكا، بعدما نالت أمريكا شعبية هائلة عند المواطنين الكويتيين بعد حرب تحرير الكويت من احتلال صدام.
محاور الكتاب الأول ثلاثة، أولها عن التهمة الملفقة والمحاكم المجحفة وتجارة المحاماة، وثانيهما عن السجون في أمريكا أنواعها وما يجري فيها، أما المحور الثالث الذي أتحدث عنه هنا فهو عن تجارب الرجل في السجون وقد وجدت أن أصدق ما يعبر عنها هو عنوان جعلوني مجرماً.
بعد أيام من دخوله سجن اسمه سجن القرن طلب ياسر من المسؤول وضع اسمه في قائمة الراغبين في حضور صلاة الجمعة؛ حيث يتجمع المسلمون في السجن في مجموعة يطلق عليها أمة، وللأمة قوانينها الخاصة، فهم يختارون إمامهم بالتصويت الحر، والإمام يعين الأمير ليدير شؤون المجموعة، ويعين الإمام وزيراً للحرب يقوم بإدارة المعارك عند الحاجة إليها ضد العصابات الأخرى، ويعين شريفاً يتابع تطبيق أعضاء الأمة لمسائل الشريعة وإيقاع العقوبات على من يقوم بخرقها.
وحدث أن نقل الإمام إلى سجن آخر فانتخب المسلمون ياسر لهذا المنصب، ثم تم اختيار اثنين من المسلمين لحراسته، فأصبحا يصاحبان ياسر كظله في كل مكان لحمايته، استمتع الرجل بالسلطة فقام بتعيين الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، وانتهى الأمر بوزير المال إلى خسارة أموال الأمة على طاولة القمار، كما باع أمين المكتبة كتبه ليستعملها مدمنو الحشيش في لف المخدرات. وهنا عقد الإمام اجتماعاً مع وجهاء الأمة لإصلاح ما يمكن إصلاحه وإعادة الموظفين السابقين، أبلغ الواشون إدارة السجن بالزعيم الجديد، فتمت معاقبته بالسجن الانفرادي بتهمة تجنيد الآخرين.
في السجن الانفرادي زامل ياسر مجموعة من السجناء، منهم أحد البؤساء الذين اضطربت هويتهم الجنسية بعد أن كان خارج السجن زوجاً مثالياً، لكنه في السجن وبسبب وسامته تعرض للاغتصاب وانتهى أمره بوضع المكياج ليتهيأ لصديقه الأسود الضخم والعياذ بالله، كما زامل زعيم العصابة اللاتينية، وهي أخطر عصابات السجن الأمريكي، وعندما اكتشف هذا الزعيم أن ياسر عربي أبدى إعجابه بابن لادن ورغبته بأن ينضم إلى طالبان ويقاتل الأمريكان.
تم نقل ياسر بعدها إلى سجن آخر، وحيث لم يكن في السجن مكتبة للكتب الإسلامية، فقد تفنن الرجل في طريقة إدخال الكتب حتى ازدهرت المكتبة، وما إن علم القسيس حتى رتب لنقله مرة ثانية إلى السجن الانفرادي بتهمة الانتماء للقاعدة وتجنيد المساجين لها.
في هذا السجن الانفرادي تعرض لهجوم السجانة بقنابل الغاز وعندما غاب عن الوعي تم نقله إلى المستشفى ثم تم إبعاده إلى السجن القديم، أي سجن القرن، الذي عاد فيه إلى إمامة الأمة الإسلامية، وهناك عاد إلى نشاطه المفيد في الدعوة إلى الإسلام وإثراء مكتبة المسلمين.
أحد أتباع الإمام من المسلمين كان مغرماً بالمقتنيات اللامعة، وسرقت منه إحدى ساعاته الرخيصة اللامعة، ولم تبق المسألة في حدود السرقة، إذ في عرف السجن السكوت يعنى أن تصبح مطمعاً للجميع ومثاراً لسخريتهم، وحيث أصبح السارق معروفاً ومن المنتمين إلى عصابة الملوك اللاتينية الخطيرة، فقد تفاقم الموقف، ولم تفلح محاولات ياسر للإصلاح وتواعدت الأمة الإسلامية والعصابة اللاتينية على الحرب وتجهزتا بكل الأسلحة البيضاء التي يمكن صناعتها في السجن أو تهريبها.
وأُسقط في يد ياسر، السجانون عادة ما يتكاسلون حتى يكثر القتل والدم، وهو لا يستطيع التراجع أمام مأموميه المشحونين. وأخيراً تحايل ليوصل رسالة إلى إدارة السجن من فاعل خير مجهول يفشي سر الحرب قبل وقوعها، فتم القبض عليه وإعادته إلى السجن الانفرادي، وانتهت الحرب قبل وقوعها وبعد قضاء عقوبة ٤٥ يوماً عاد الإمام إلى الأمة.
حلّ رمضان ثم العيد، وأراد الإمام ترتيب حفلة العيد، في العادة تتم الموافقة على إدخال أطعمة ومواد للاحتفال بالكريسماس بسهولة للمسيحيين، ولكن بالنسبة للمسلمين هناك شروط تعجيزية، استطاع ياسر الحصول على إذن من القسيس الأسود لإدخال وجبات من كنتاكي يوم العيد، سبعون مسلماً استمتعوا بمأدبة العيد، بعضهم بكى لأنه لم يرَ كنتاكي منذ أعوام عديدة وبعضهم بكى لأنه لن يراه مطلقاً فهو محكوم بالسجن مدى الحياة، المهم أن الجميع تمتعوا بوجبة لم يكونوا يحلمون بها، علم مدير السجن فراح يوبخ القسيس ثم أصدر أمراً بمعاقبة ياسر بالسجن الانفرادي وترحيله بعدها إلى سجن آخر اسمه سجن مايو ويطلق عليه المقبرة.
وكانت أقل عقوبات سجن مايو أن ماء الشرب فيه لها لون يجعلها أشبه بالشاي، وقد وجد عند فحصها أنها تحتوي على جرثومة E Coli التي تتسرب إلى آبار المقبرة من روث الفئران والأبقار، ولما كانت سجون ولاية فلوريدا غير مستعدة لخسارة الدولارات في إقامة المصافي فهي تخلطها بنسبة عالية من الكلور، مما يؤدي إلى أن تدمع عين شاربيها باستمرار وتصاب جلودهم بالاحمرار والحرقة والحكة والصلع.
تحتكر عائلة الرئيس بوش وأولاده إدارة منافذ البيع داخل سجون فلوريدا، وفي كل سجن أربعة منافذ للبيع، ودخل كل منفذ حوالي ١٠٠٠ دولار يومياً، وحيث إن عدد سجون الولاية يصل إلى مئة، يمكنك تخيل الدخل اليومي لهذه العائلة.
رتب ياسر وصديق مغربي استيراد التبغ ولفه وبيعه مقايضة بأطعمة أخرى، وعندما لاحظت ذلك إدارة السجن أصدرت أمراً بمنع بيع التبغ مما أدى إلى أن أصبح سعر السيجارة اللف ثلاثة دولارات في السوق السوداء، وتفنن ياسر وشريكه في تطوير تجارتهم فقاموا بخلط التبغ بنشارة الخشب واستعمال ورق الكتاب المقدس، ثم أقنعوا السجانين بالسماح لهم بتنظيف غرفهم. لماذا؟ يستعمل السجانة نوعاً من التبغ يخزن في الفم ليتم امتصاصه، ويزيد ذلك من لعابهم، وهنا يبصقون في أكواب خاصة، يقوم المنظف باستخلاص هذه الأكواب من الزبالة لاستخراج التبغ من أعقاب السجائر ومن الأكواب، ثم تنشف ويعاد استخدامها في التبغ الملفوف، يعتقد ياسر أن ذلك كان سبباً في ازدياد الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي بين المساجين، لم يتبين لي متى كف ياسر وفهيم صديقه عن هذه التجارة ولا إذا ما كان يعاني من التهاب الضمير نتيجة في تسببه في مرض خطير للمساجين، فأضاف إلى مظالمهم مظالم أخرى.
في السجن لكل سجين وظيفة عليه أداؤها، بعضها هين مثل العمل في المكتبة أو الكنتين وبعضها مقرف جداً مثل العمل الذي أوكل لصاحبنا وهو تنظيف مراحيض السجناء، وهذه المراحيض يصفها ياسر وصفاً مقززاً لما تحتويه من قذارة ناشئة عن جمعها ما تفرغه أحشاء الإنسان ومجاري جسده المائية وفمه وأنفه من مخرجات مختلطة بمضغ المخدرات وأكل اللحوم العفنة، استطاع الرجل تأجير سجين آخر القيام بهذه المهمة، والاستفادة من الساعتين في التمتع بالخروج من الزنزانة، وفي يوم من الأيام سمع من ينتظر اسمه للحضور إلى مكتب السجان، أصبحت ساقاه مثل خيوط السباغيتي، وصل وهو يتخيل كل ما سمعه مما قد يحصل من تعذيب تنتهي بالموت أحياناً، السجانة امرأة جميلة، لكن هذا لم يهدئ روعه حتى تبين أنها ريتشيل، صديقة عملت في المقهى الذي يملكه وأصبحت من عشاق القهوة التركية، ثم استقالت لتكمل دراستها، تذكر ياسر أنها قد حضرت محاكمته وبكت متأثرة عند صدور الحكم، لكنها حصلت الآن على درجة جامعية في علم الجريمة وحصلت على وظيفة في السجن، استقبلته ريشيل استقبال كريما، وقامت بتغيير وظيفته لينظف حمامات السجانات، وهي حمامات في غاية النظافة، وكلما كانت نوبتها استدعته لأداء وظيفته ولاطفته وحادثته.
بدأت الحكاية بأن كانت تهاديه بعلبة سجائر ثمنها دولار، فيبيعها بمئة دولار، وهكذا أصبحت تأتي له بكروز سجائر يبيعها ويقتسمان ثمنها، وفي أسابيع أخرى تأتيه بجهاز هاتف بدائي ثمنه عشرون دولاراً يبيعه بألف دولار وهكذا حتى بدا عليه الغنى.
وفي يوم غير سعيد استُدعي إلى مكتب الرئيس، رجل سافل قذر، يتلذذ بتعذيب الآخرين، وعرف أنه قد وقع، كانت علاقة ياسر بريشيل تحت المجهر، وهنا خضع للمساومة، إن قبل أن يحاط جيده بأسلاك وكاميرات تصور ريتشيل وهي تعطيه البضاعة فتقع في الفخ فقد نجا، إن رفض سيواجه بعقوبات شديدة، معلوماته أن هذا المدير السافل يوقع بالجميلات من السجانات ليبتزهن جنسياً، رفض ياسر، وتم إدخاله إلى زنزانة فردية.
زنزانة مخصوصة شديدة البرودة، ليس فيها مكان لقضاء الحاجة، تصبح أرضها مليئة بالبول والبراز التى يجلس عليها الرجل فلا مكان لجلوسه إلا الأرض، قضى أول يومين بلا طعام، ثم رُمي له طعام اسمه اللوف، وهو عبارة عن بقايا الطعام من الموائد تخلط في خلاط كهربائي، ثم توضع في الفرن ليصبح شديد القسوة، وعلى صاحبنا أن يتناوله من على الأرض المغطاة بالقذارة السائلة، وبعد جلسة مساومة أخرى ترمى عليه كرة يخرج منها مواد كيميائية حارقة الجلد وهكذا، صمد صاحبها، ثم انقضت المسألة بأن استقالت ريشيل، ونُقل هو إلى سجن آخر.
بعد هذه الرحلة العجيبة في السجن نفهم كيف يتكفل السجانون بتحويل رجل أسلم على يديه 200 سجين إلى مجرم، ولقد تابعت ما ظهر عن ياسر في الإعلام الكويتي بعد إطلاق سراحه وحمدت الله على أنه عاد إنساناً سوياً صالحاً يتوقع منه أن يكون نافعاً لمجتمعه وناسه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.