"لا تتوقفوا عن عمل الخير الذي كنت أقوم به إذا مت، لا تتوقفوا عن مساعدة الأشخاص الذين كنت أهتم بهم".. من بين كل الأخبار حول وفاة الفنانة الجميلة سهير البابلي توقفت كثيراً أمام هذا الخبر بالذات، حول وصيتها الأخيرة، لم تتعلق بتقسيم ميراث، أو خلافه، فقط تعلقت بعمل الخير الذي داومت عليه صاحبته التي فارقت الحياة بعد 86 عاماً عاشتها كما يجب للإنسان أن يعيش.
لم أحزن كثيراً حين سمعت خبر الوفاة، أنا أحبها جداً، لكنني أعلم أنها وصلت أخيراً إلى نهاية الامتحان الذي تقول سيرتها إنها أجادته حتى اللحظة الأخيرة، ربما حان جني الثمار، كلما شاهدت لقاء لها تمنيت لو أنني في قوة تلك المرأة التي ضربت يدها في أعماق الحياة فانتزعت كل ما أرادت.
كنت أتصور أن طريقتها التي تظهر على الشاشة مختلفة بالتأكيد على أرض الواقع، ذلك الجهد الرهيب في التعبير واستخدام كافة ملامح الوجه وأجزاء الجسد للتعبير عن معنى معين لا يمكن أن يكون مستمراً طوال الوقت، لكنني فوجئت عبر لقاءاتها داخل منزلها وكذلك جلساتها مع الأصدقاء أنها الشخص نفسه، كتلة متحركة ومتفجرة من التعبير والمشاعر.
عدد لا نهائي من المرات عانت فيها حالة صحية متردية قبيل العروض المسرحية، تكاد تفقد وعيها، تتصبب عرقاً ولا تقدر على التقاط أنفاسها، لكنها فجأة تخرج على المسرح لتصبح واحدة أخرى كالأسد تزرع المسرح جيئة وذهاباً، تصول وتجول لتنتزع الضحكة من أعماق جمهورها المبهور دوماً بها، فتسترد عافيتها سريعاً.
سكينة.. سوسكا.. بكيزة، مع كل دور كانت قادرة على ترك علامة مميزة وقوية جداً، أحب مشاهدة لقاءتها حيث إنه من النادر أن ترى شخصاً واثقاً من نفسه إلى هذه الدرجة، قادراً على الدفاع عن قناعاته في وجه المعارضين بكل قوة وحزم، حتى وإن تحول من النقيض إلى النقيض، لا يهمه سوى ما يراه صائباً ما دام غير مؤذٍ للآخرين، أو في قول آخر "لا يخشى في الله لومة لائم".
بالنسبة لي، سهير البابلي هي النموذج الحقيقي للحياة، امرأة عاشت في كل لحظة كما ينبغي لها أن تعيش، حتى أعلنت رضاها عن المجموع الكلي لحياة لم تدع فيها شيئاً إلا وجرَّبته بقوة وجرأة فقالت: "أنا مستمتعة بكل مراحل عمري"، عمر كان الدرس الرئيسي والأساسي فيه بحسبها "اتقِ شرّ من أحسنت إليه".
درست في معهدين معاً!
سهير حلمي إبراهيم البابلي، المولودة عام 1935 فتاة اشتهرت في محيط أسرتها بـ "كوميديانة العائلة"، وكان ثمة اتفاق ضمني في عائلتها أنها موهوبة بالغناء والموسيقى، أصولها من محافظة دمياط، لكن طفولتها كانت بحكم عمل والدها كناظر لإحدى المدارس الثانوية، في مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية، تقول: "رفضت أسرتي دخولي مجال التمثيل كلياً، ماما بالذات الفلاحين غير القاهرة، لما طرحت فكرة التمثيل والدتي رفضت بشكل قاطع، بنتها تبقى ممثلة دي تبقى مصيبة سودا، لكن بابا كان راجل عالي في تفكيره، ولطيف، ساعدني واشتغلت غصب عنهم كلهم لأني أنا بحب الفن".
هكذا قررت أن تدرس مجالي اهتمامها لعلها تلمع بأحدهما، فالتحقت بالمعهد العالي للفنون المسرحية ومعهد الموسيقى في نفس الوقت! بداية قوية تتلمذت خلالها على يد أساتذة من بينهم عبد الرحيم الزرقاني، وحمدي غيث، تقول: "كنت شعنونة أضحك كل اللي حوليا، وأطلع في البنوار، وأغني، أخدوني على المسرح القومي ومثلت أعمال كتير قبل ما أنضم لمجموعة الفنانين المتحدين في مسرحية مدرسة المشاغبين، واللي حاولوا ينسوني الجدية الشديدة اللي كنت بمثلها قبل كده، طول الوقت أول لما أبدأ أندمج بزيادة وأتحول لجد ألاقيهم يقولولي (يا قومي) فنضحك كلنا".
من السينما والتلفزيون إلى المسرح لا يمكن أن تذكر ممثلاً إلا وتجدها وقفت أمامه، عبد الحليم حافظ، وسعاد حسني وفؤاد المهندس.
نظفت حمامات المسرح!
من يعرف سهير البابلي جيداً يدرك فوراً عشقها للنظافة والنظام، تقول ابنتها الوحيدة: "كان أهم حاجة عندها نظافة حمامات المسرح؛ لدرجة كانت تاخد معاها ناس من عندنا في البيت ينضفوا معاها حمامات المسرح، وفي نفس الوقت تحب النظام والهدوء فتمنع الصوت، كان عندها قناعة إن جمهور المسرح لازم يلاقي كل تفصيلة حلوة حتى الحمامات".
توقعت فشل بكيزة وزغلول
لا يعلم البعض أن سهير البابلي هي صاحبة فكرة مسلسل بكيزة وزغلول، وكذلك الفيلم، بدأ كل شيء حين ذهبت إلى إسعاد يونس تخبرها أنها ترغب في أن تقوم إسعاد بكتابة "الأيدي الناعمة" لكن على الطريقة النسائية، فكان بكيزة وزغلول، ثم ذهبتا معاً إلى المنتج حسين القلا، "لو سمحت اقرا الورق ده وقولنا رأيك" قالتها سهير بطريقة متعالية بعض الشيء، لكن المنتج قرأ الورق وعرضه على مستشاره الفني والذي لم يتحمس كثيراً، لكنه وافق على إنتاجه على أية حال، لينطلق العمل الفني الكوميدي الأشهر والذي نقل بطلتيه إلى مستوى آخر من الجماهيرية وحب الناس من تلك الفيلا القديمة بمنطقة الدقي في ميدان المساحة، إلى الوطن العربي بالكامل، حيث صار الجميع يعرف كلاً من سهير البابلي وإسعاد يونس بـ"بكيزة وزغلول".
لا يعرف البعض أيضاً أن سهير توقعت فشل العمل، خاصة حين تأخر توزيعه ولم يعرض في مصر، وإنما كان عرضه الأول بلبنان، ثم تم عرضه لاحقاً في مصر، لذلك استمرت سهير دائماً في التأكيد "مكنتش متوقعة كل النجاح ده".
كلمة السر في حياتها "نيفين"
لولا فارق السن، ربما كان من الصعب التفريق بين الاثنتين، الشكل والصوت، والملابس، وكل التفاصيل وحتى حركات اليدين، متماثلة تقريباً، تشعر للوهلة الأولى أنهما توأم، في الواقع تعد نيفين الناقوري هي المحرك الأساسي الخفي، والباعث الرئيسي للقرارات المصيرية في حياة سهير البابلي، صحيح أنها الابنة الأولى والوحيدة للفنانة الكبيرة من زواجها الأول، لكن العلاقة التي جمعت الاثنتين لم تكن عادية، بمزيد من التدقيق تشعر أن الوضع معكوس وأن نيفين هي في الواقع والدة سهير وليس العكس، تقول: "ماما بيبي طفلة جداً، عاطفية جداً، على سجيتها جداً، بس عبقرية بالفطرة، كرامتها في شغلها رقم 1، اتعودت تاخد رأيي في شغلها كله، وعلاقاتها الشخصية، طول عمري أروحلها المسرح نقعد نتكلم، زي ما تجيب لنفسها فساتين تجيبلي، بنتها الوحيدة والعروسة بتاعتها، نلبس زي بعض وشبه بعض من طفولتي.. أنا وأمي روح واحدة".. هكذا كانت تعتمد سهير على نيفين كعمود فقري في حياتها ومرآة للجزء الذي لا تراه من نفسها "من شدة التوتر أثناء التجهيز للمسرحيات وقبل الظهور على المسرح كانت تقولي نيفين إقريلي قران عشان أهدى، وانزلي بصي عليا في الصالة شوفيني شكلي عامل إزاي؟".
من المسرح إلى البيت تصف نيفين علاقتها بوالدتها بأنها "دويتو في الضحك.. بنضحك على الإيفيهات من قلبنا"، ربما تقارب الأعمار هو السبب، حيث تزوجت سهير في سن الـ16 لتنجب ابنتها التي لم تتخلّ عنها لحظة "أمي جميلة جداً، كانت أم حقيقية، حتى مع سفرها كانت تسيبني مع عمتي أو خالتي لكن تفضل معايا على طول بالتليفون".. مع الوقت صارت سهير تستمد قوتها من ابنتها، ربما لأن نيفين تراها بالفعل عن قرب فتقول عنها: "إنسانة قوية، في إرادتها وشخصيتها، ماما ست دوغري أوي، وعصبية جداً، لكن القرآن والهدوء والسكينة ظبطت الحتة دي، ست عبقرية في كل تفاصيل حياتها حتى وهي بتعمل الرز عبقرية، حساسة ومعطاءة وتخاف ربنا أوي.. من كتر ما احتوتني أمي ماشوفتش نجوميتها، كانت أم بتسأل على بنتها في المدرسة باستمرار وتضربني لو نمَري مش حلوة".
عرفت نيفين أثر التوتر على والدتها في سن مبكرة "كام مرة تخش مستشفى وتخس جداً من شدة البروفات، توتر شديد وصل لدرجة إنها ركبت جهاز منظم لضربات القلب، لكن بمجرد ما طلعت على المسرح في يوم خلعته وانطلقت.. دلوقتي مبقاش في توتر، بعد الحجاب والولاد والأحفاد كلنا مع بعض، بتحس أحلى لحظات حياتها وإحنا معاها، أنا طول عمري معاها".
حرب "الحجاب"
"نفسي أموت على خشبة المسرح".. هكذا كانت تخبر الجميع بأمنيتها، كم ترغب في أن تموت وهي تفعل الشيء الذي أحبته كثيراً، لكنها فجأة عدلت عن قرارها واختارت طريقاً مختلفاً، حين سألها أحد المذيعين عن السبب فأجابته دون تفكير "خفت.. بنتي لابساه قبلي وهي صغيرة جداً، قلت إذا كانت المفعوصة دي لبسته، ومن سن 17 سنة بتدرس وبتقرأ قرآن، وبتدرس، اتكسفت من نفسي، إن بنتي تكون ملمّة بالدين وأنا شاغلني التمثيل، خفت من اللي هيحصلي، وكل اللي شغالين في المجال هيتحاسبوا، سألت الشيخ الشعراوي عن فلوس التمثيل قالي آه فلوس حرام، يومها أنا وممثلة تانية اتحجبنا".
حين ارتدت نيفين الحجاب ذهبت إلى والدتها المسرح في الفاصل، دخلت عليها غرفتها لتخبرها أنها ارتدت الحجاب فإذا بأمها تنخطف للحظة وتقول "عقبالي" كان ذلك خلال التسعينات وقت عرض مسرحية عطية الإرهابية، تقول سهير "سيبت التمثيل ولاقيت نفسي مش لاقية حاجة، لكن ربنا بيوسعها على الواحد، كفاية إنك بتنامي سعيدة، مايهمنيش الفلوس، أنا بتاعة قرآن وبعمل اللي قال عليه محمد، ده اللي أنا عاوزاه، باختصار أنا كسبت أسرتي، بعد خروجي من الفن".
مع الوقت تحول أمر ارتداء سهير الحجاب إلى حرب، حيث قوبلت بهجوم شديد، بل إن البعض قاطعها في حين دعمها آخرين مثل "يسرا وشهيرة وياسمين الخيام"، لكن الهجوم ومحاولات إقناعها بالعدول عن الأمر لم تنجح، حتى إنها أعلنت بوضوح: "لو هامثل شروطي محدش يبوسني ولا يحضني، ولا يبقالي زوج في العمل".. مسألة تبررها بأنه لا توجد أمور وسط في الحق والباطل "شادية لما اعتزلت بقت شادية وقفت كل حاجة، ماترددتش، ولا أنا ترددت، لحظة، رجعت مسلسل بعد كام سنة اسمه قلب حبيبة، فتحي عبد الوهاب كان طالع ابني وممنوع يحضني".. صحيح أنها لم تمثل بعد قلب حبيبة لكن الناس ظلت تحب سوسكا حتى إن مقطعاً واحداً لها عبر يوتيوب ما زال يحصد مشاهدات وصلت لأكثر من 3 ملايين مشاهدة.
عقابات سياسية عديدة
في إحدى المرات قالت سهير إيفيه في مسرحية حضرها أحد المسؤولين فتم إيقافها عن العمل ومنع اللقاءات والتصوير معها لمدة 8 شهور، تقول نيفين: "وقتها سافرنا إسكندرية وقعدنا كعائلة مع الولاد ومعايا عشان تخرج من مود إنها فنانة، لكن طبعاً من جواها كانت حزينة لحد لما السيد مصطفى أمين، ومصطفى شردي، وقفوا معاها جداً، ودافعوا عنها، بعدها عادت بمسرحية نص أنا ونص انتي وفوجئت بكم الحب والدعم الذي حظيت به وقتها".
أصدقاؤها وزيجاتها
تمتعت سهير البابلي طوال عمرها بمجتمع من المحبين، فإذا عاشرت كان الود وإذا فارقت كان الاحترام، يمكن أن ترى هذا في حديث أصدقائها عنها وعلى رأسهم يسرا، التي رأت سهير في مرحلة شبابها تقول: "كانت في المعمورة وليلى مراد عارفة جدتي وهي كانت متجوزة منير مراد، وأنا أعرفها وهي ماتعرفنيش، ولما دخلت الفن والتمثيل بقت صاحبتي، عشت معاها من أجمل أيام حياتي، تطبخ لي، أبات معاها أنا وإسعاد، نسهر إحنا التلاتة فتفرد مرتبة ونكسل نروح، فنبات، تقولنا انتو جايين فول بورد، دايماً أقول لها انتي تطولي العمر من ضحتك وقلبك الحلو.. بني أدمة بتحبك في كل سجدة بتدعيلك، دي سهير البابلي".
يمكن أن تدرك أيضاً حسن عشرتها من حديث ابنتها عن أزواجها، فمن زوجها الأول محمود الناقوري أنجبت ابنتها الوحيدة نيفين، ثم تزوجت من منير مراد، الذي تذكر عنه نيفين "كان عمري تسع سنوات وكان يقعدني قدامه ويسمعني الألحان، وكان رجل ملتزم جداً بالإتيكيت". ثم تزوجت من تاجر المجوهرات أشرف السرجاني والذي دامت علاقتها الطيبة معه حتى عقب الانفصال، وتقول عنه نيفين: "أنكل أشرف كان أب وكان حنين وكان بيحب ماما جداً"، ثم تزوجت من رجل الأعمال محمود غنيم قبل أن تختم زيجاتها بالزواج من الفنان أحمد خليل والذي دامت علاقته الطيبة معها حتى عقب الانفصال، تقول نيفين: "حضر خطوبتي، ووضب كل حاجة مع بابا، إنسان راقي جداً وهو اللي شجع خطوبتنا".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.