منذ 12 أكتوبر/تشرين الأول الماضي لم يجتمع مجلس الوزراء اللبناني على خلفية تمسك حزب الله بعزل قاضي التحقيق في قضية مرفأ بيروت طارق بيطار. والحكومة التي تشكلت برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي بداية سبتمبر/أيلول بعد انتظار نحو سنة ونيف من تصريف الأعمال تبدو اليوم كأنها فجَّرت كل الأجواء الإيجابية التي أعقبت تشكيلها.
وكأن الآمال التي وُضعت عليها تلاشت فجأة. عندما تولى وزير الثقافة القاضي محمد مرتضى زمام الكلام في تلك الجلسة كان يضع حدّاً لمسار سياسي وطموح رئيس الحكومة بتخفيف الانهيار الاقتصادي الذي أخذ البلاد نحو تضخم وانفجار اجتماعي، والحقيقة أنه ومنذ 12 أكتوبر/تشرين الأول بدا وكأن سرعة الهبوط نحو الهاوية تسير بشكل متسارع.
والمسار السياسي التعطيلي كان يكمل عملية تعطيل مسار العدالة. ما فعله مرتضى كان يتمم ما بدأه مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله الحاج وفيق صفا في قصر العدل، عندما هدد بقبع المحقق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار.
ومنذ ذلك الوقت تأكد أن المسارين متلازمان. ولذلك فإن كل ما يحكى عن حلول موضعية يبدو كأنه بعيد عن الواقع ولا يؤدي إلى فك الحصار عن الحكومة وعن القضاء. فمنذ نحو عشرة أيام أيضاً وأعمال التحقيق في قضية المرفأ معطلة ومجمدة بعد القرار الملتبس الذي اتخذه أيضاً القاضي حبيب مزهر، والمتعلق بكف يد البيطار بعد إغراق العدلية بدعاوى عبثية.
فوق كل هذا التعطيل أتت الأزمة مع السعودية بعد تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي بحيث كان رفض استقالته وكأنه العامل المضاف إلى تعطيل مجلس الوزراء وتعطيل سير العدالة، وتسريع الاتجاه نحو الانهيار في ظل تفاقم الأزمات السياسية والمالية.
زيارة أوغلو
في هذا الإطار المتسارع وصل وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى بيروت قادماً من إيران والتي التقى رئيسها ووزير خارجيتها وناقش معهما ملفات إقليمية أبرزها الملف اللبناني وأجرى محاولةً تركية نحو الجانب الإيراني لتثبيت قاعدة خفض التصعيد السياسي في لبنان وإعادة إحياء الحكومة والتي يتطلب منها إجراء انتخابات برلمانية في موعدها.
وأوغلو الذي أعاد تجديد دعم بلاده لاستقرار لبنان أسمع جميع من التقاهم في بيروت كلاماً واضحاً أن لا غاية لبلاده في لبنان سوى التعاون مع السلطات الشرعية المنتخبة ودعم الجيش والمؤسسات التي تعاني من انهيار في قطاعات الصحة والمواصلات وإعادة إعمار المرفأ.
اهتمام تركي وساحة مبعثرة وشعور سني بالهزيمة
وعليه لا يمكن البحث في أسباب الزيارة التركية إلى بيروت بمعزل عن مستجدات المنطقة وما ستشهده، في ظل أزمة لبنان الدبلوماسية التي اندلعت مع دول الخليج العربي، على خلفية مواقف وزير الإعلام جورج قرداحي من الحرب في اليمن قبل توليه مهام منصبه وزيراً للإعلام في لبنان.
وبعيد زيارته لطهران، وغداة زيارات مسؤولين عرب إلى أنقرة، فإن رئيس الدبلوماسية التركية أثار خلال لقائه مع المسؤولين في لبنان قضايا عدة، كان أبرزها طرح موضوع النازحين السوريين والحديث عن تأمين العودة الطوعية لهم إلى بلادهم.
والاهتمام التّركي المتصاعد بالملف اللبناني آتٍ من زوايا عدة، أبرزها محاولة تلمس آثار الفراغ الذي ولّده الغياب السعودي والعربي، وهو فراغ يجعل لبنان جزءاً من خارطة النفوذ الإيراني، بالمقابل لا يريد الأتراك منافسة القاهرة أو أي لاعب عربي يسعى لملء الفراغ، لكنهم حتماً يعتبرون أمن لبنان جزءاً من أمنهم القومي، طالما أن قواتهم ترابط في حزام يمتد أفقياً على طول الحدود السورية الشمالية.
ثانيها: انخراط تركيا في الصراع العالمي المُستعر ليس على بلوكات الطاقة فقط، بل على ممرّات إمداداتها نحو القارة الأوروبيّة، فما يُستخرج من غازٍ لا قيمة له قبل وصوله إلى أوروبا، والسِباق هو فيمن يصل أوّلاً.
والملفات الحاضرة والتي قد تكون مفتاحاً للحضور التركي في لبنان في حال أحبت الإدارة الحاكمة المجيء فهي لن تكون أسهل مما عليه الآن، ساحة سنية مبعثرة وتعطش لدى سنة لبنان لنموذج جاذب يمثله رجب طيب أردوغان معطوف عليه مساعٍ جادة للمشاركة في إعمار مرفأ بيروت واستثمار في المنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس والتي أغدق عليها نجيب ميقاتي مليون دولار مؤخراً في محاولة جذب الأنظار إليها، وتطوير مرفأ طرابلس؛ حيث الثقل الشعبي المؤيد لأردوغان (شعورياً دون حضور فعلي) وغزارة البلوكات النفطية في الشاطئ الشمالي المجاور للحضور الروسي والإيراني في سوريا.
وتركيا "السنية" الحاضرة في المجال اللبناني المتشابك تمتلك علاقات واسعة مع كل المكونات الأساسية في بيروت المتفق معها، والمختلف يستطيع الاعتراف بسلاسة وعقلانية دبلوماسيتها الحاضرة في بيروت على كل الأصعدة، من وليد جنبلاط الذي قام نوابه منذ مدة بمرافقة السفير التركي في جولة على بعض القرى الدرزية، إلى تيار المستقبل الذي يحرص على الاستعانة بصور الحريري مع أردوغان "نكاية بالسعودية"، مروراً بالأحزاب المسيحية الحريصة على صوغ علاقات متقدمة مع الأتراك وليس انتهاءً بالجماعة الإسلامية الخارجة من المشهد السياسي بضربات قاضية والتي تبدي حباً مجانياً لتركيا وأردوغان، فيما الأتراك والقطريون ليسوا بوارد دعم فصيل منتهٍ سياسياً بعدما فشلت محاولات تأهيل إخوانهم مصرياً وسورياً.
مباحثات أمريكية-قطرية: السعودية غير جاهزة!
وبانتظار التثبّت من نتائج زيارة رأس الدبلوماسية التركية إلى بيروت توجهت الأنظار إلى الحملة الدبلوماسية القطرية التي تجلّت بالزيارة التي قام بها وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى واشنطن بعد اتصالاته مع طهران منذ عودته من مؤتمر غلاسكو المناخي، اتصالاته التي كانت نتائجها مادة أساسية في اللقاء الذي جَمعه بنظيره الأمريكي أنتوني بلينكن السبت الماضي.
والبحث تركّز في جزء مهم من اللقاء حول ما يجري في لبنان، وتوقّفا ملياً أمام مستجدات الأزمة الدبلوماسية مع المملكة وانعكاساتها على الساحة الداخلية التي تعاني مجموعة أزمات زادت من تفاقم الاقتصادية منها والتجارية والمالية إلى حدود خطيرة.
كما تطرقا إلى إمكانية القيام بعمل مشترك يؤدي إلى تبريدها ولجمها عند حدود ما اتخذ من قرارات، منعاً من الوصول إلى نقطة اللاعودة. وكل ذلك من أجل رفع المخاطر التي هددت الحكومة اللبنانية الوليدة حديثاً، نتيجة الفشل في رأب الصدع سريعاً ومعالجة شرارة الأزمة الأولى.
وهو ما تجلّى بالكلمات القليلة التي حدّد فيها بلينكن موقفه من حكومة ميقاتي، بما لديها من خطة جيدة للدفع بلبنان إلى الأمام وتأكيده أن بلاده تعمل على توفير الوقود في لبنان، ومع الجيش اللبناني لضمان الاستقرار، وهو ما اعتبر رسالة مباشرة إلى الرياض قبل بيروت إن بقيت على موقفها منها.
وعليه فإن اللقاء القطري-الأمريكي لم ينتهِ إلى تشجيع قطر للمضي بمبادرتها لوقف الأزمة بين السعودية ولبنان، فالعلاقات بين الإدارتين السعودية والأمريكية ليست على ما يرام. وقد لا تسمح بالبحث في أي خطوة تجاه ما يجري في لبنان.
فالزيارة الأخيرة التي قام بها مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان إلى الرياض منتصف الشهر الماضي لم تنتهِ إلى نتائج إيجابية، ولم تُحيِ الثقة المفقودة بين واشنطن والرياض. أعضاء الوفد الأمريكي الذي رافقه أوحى بجدول أعمالها، فوجود مبعوث الرئيس الأمريكي الخاص إلى اليمن تيموثي ليدركينغ، ومنسق شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بريت ماكغورك أوحى بأن التفاهم السعودي-الأمريكي حول القضايا التي تعنيهم ما زال بعيداً.
واشنطن وركائزها اللبنانية
ولا ينفصل هذا الواقع المعقد عن حماسة واشنطن لاستجرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان. فمساعي البنك الدولي لإنجاز هذا الملف تنصب على إنضاج الصيغة منذ أشهر. ولها بُعد استراتيجي يتعلق بربط لبنان بمسار "التطبيع" الاقتصادي في دائرة الشرق الأوسط. وهذا قد يقود لاحقاً إلى تجميع كل مصادر التمويل والأصول في صندوق موحد يحتوي على كل ثروات الدولة واللبنانيين.
لذا فإن الزميل المحلل منير الربيع يرى أن هذه الوقائع، مع استمرار النزاع بين القوى السياسية على ملفات متعددة- كالصراع بين حزب الله والقوات اللبنانية، والصراع على القضاء، والأزمة الدبلوماسية مع دول الخليج- تقود إلى عدم التعاطي مع لبنان كدولة، بل كأطراف، منها ما تستعمله كمنصة لإطلاق الصواريخ واستدراج العروض السياسية، وأخرى تبحث فيه عن استثمارات وعقود طويلة الأجل. وهناك من يحاول إنتاج مساكنة سياسية جديدة، على غرار المساكنة السابقة التي كانت أيام رفيق الحريري الذي أدار الاقتصاد، مقابل احتواء سوريا حزب الله والسياسة الخارجية.
أما المساكنة اليوم فقد تكون بين جماعة العقود والاستثمارات، أي الشق الاقتصادي، والشق السياسي الذي يمثله حزب الله سياسياً وعسكرياً واستراتيجياً. ويبحث هؤلاء عن قواسم مشتركة فيما بينهم، لتوفير ظروف المساكنة: ملف ترسيم الحدود، الانتخابات وإجراؤها في موعدها، وما قد ينجم عنها من نتائج. وهي قد لا تؤثر على المسار السياسي العام في البلد، بل ربما تزيد من عوامل الانقسام والتفكك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.