إحدى الجهات الإعلامية، التي كان بيني وبينها مسودة تعاون قبل سنوات، كان مديرها مصراً على أن أسلمه نصي مكتوباً، ليلقيه أمام الكاميرا رجل، وكنت أنا مصرة على أن ألقيه بنفسي!
وبعد نقاش، أخبرني عن السبب ببساطة:
– أنت لست قبيحة بما فيه الكفاية!
لو كان صاغها على نحو: "أنت جميلة أكثر من اللازم"، لكنت احترت بين الشعور بالإطراء والإهانة، لكنه وفر علي هذه الحيرة، وأبقى لي الشعور بالإهانة فقط!
فسياستهم في المنصة تقتضي السماح فقط لكبيرات السن، و"القبيحات" بالظهور أمام الكاميرا، ومن زاوية بعيدة يصعب معها تبين ملامحهن!
ثم شاهدت لاحقاً فيديو لامرأة على منصتهم، تؤدي أداءً مونوتونيا مملاً، ففكرت في نفسي: هل تعرف هذه المرأة أنهم يرونها قبيحة، حتى منحوها هذه الفرصة!
المشكلة أنني استُبعدت "لعدم قبحي"، في الوقت الذي كنت فيه في أبلغ جهد للتنكر لأنوثتي، فقد كنت نُصحت من قبل عدد من الكتاب، أني لو كنت أريد أن أُؤخذ في عالم الكتابة بجدية، يجب علي أن أكون حذرة جداً فيما يتعلق بمظهري.
نصائحهم التفصيلية كانت تشمل أن أضع لي على حسابات التواصل الاجتماعي صوراً جامدة، داكنة الألوان، ذات تعبير محايد، أما ظهوري في الفيديو فيجب أن يكون محسوباً، بنبرة صوت ثابتة، بدون أي ارتجال أو أية إيماءات عفوية، وبابتسامة مقيسة بالميلي متر، وفي لحظات نادرة فقط.
باختصار كان القالب الذي يجب عليَّ وضع نفسي فيه أقرب إلى الجمود والتخشب منه إلى الوقار والرزانة.
وهذا ما التزمتُ به لفترة من الزمن، طمعاً في أن أؤخذ بجدية، وألا تتم محاكمة كتاباتي بناء على جنسي، إلى أن وصلت لمرحلة شعرت فيها بأنني أزيف نفسي!
لم يطل الأمر حتى اكتشفت أن النساء لا يُؤخذن على محمل الجد في كل الأحوال، فإن كانت المرأة شابة زاد ذلك الطين بلة، فإن كانت عزباء أو منفصلة، فالبلة أكبر، فإن كانت على قدر من "عدم القبح"، ستغوص في الطين الرائب حتى غرتها!
في عوالم الفكر والأدب والعلم والسياسة، التي لا يزال يهيمن عليها الرجال، لا يُعترف بالمرأة إلا إن طمست أنوثتها بلا أثر.
ألستم ترون نساء السياسة ومديرات الشركات الكبرى، ملتزمات بمظهر واحد لا يتغير، يشمل غالباً قصات الشعر القصيرة، والبزات الشبيهة ببزات الرجال؟ هل رأيتم أنجيلا ميركل ترتدي يوماً فستاناً؟ أو تعقص شعرها في تسريحة أنثوية؟ إذاً لفقدت مصداقيتها، في اللحظة التي أعلنت فيها عن جنسها!
على المرأة أن تموه عن جنسها إذا أرادت أن تؤخذ على محمل الجد في هذه الميادين، وأن تتجنب كل ما يمكن أن يذكِّر الآخرين بأنها أنثى، بما في ذلك الحمل والإنجاب! ولذا قلما ترى شخصية نسائية عامة تمارس نشاطها على الملأ، ببطنها الحبلى!
فكرتُ بذلك في اللقاء الصحفي الأخير، الذي كانت الصحفية تصورني فيه من زوايا مختلفة!
ترددت للحظة، قلت لها:
– لا أشعر أن منظر الحامل يوحي بالمهنية أو الأكاديمية!
ثم تساءلت عن مصدر هذا الشعور، إنه أتى من عالم لا أرى فيه امرأة فاعلة ببطن كبير! إنهن يتوارين كي لا يُذكّرن من حولهم بأنوثتهن، أو يقررن عدم الزواج أو عدم الإنجاب أصلاً، كما فعلت سياسيات كثر، بل قياديات دينيات في سوريا أيضاً!
"في عالمنا عموماً، تتأثر صحة المقولة كثيراً بجنس قائلها، حتى في أكثر دول العالم ادعاء للتقدم"..
هذا ما أسرّه لي زميل ألماني يحمل الدكتوراه في الفلسفة من واقع تجربته الأكاديمية.
ستزداد مصداقية مقولة ما تلقائياً، إذا كان صاحبها ذا شارب، أو صوت خشن، أو عمامة، وستقل تلقائياً إن حملت صاحبتها وشاحاً على رأسها، أو كان لها شعر طويل، وصوت ناعم، ووجه أملس!
وهذه أمور لا يمكن التخلص منها لسوء الحظ!
حتى في الأوساط الأكاديمية، كانت الفتيات يلقبن في أوروبا في القرن الماضي بـ"ذوات الثديين"! إن وجود الثديين خطيئة لا تغتفر للمرأة، إذا أرادت أن تدخل ميداناً علمياً!.
تحتاج المرأة أن تتنكر لأنوثتها كثيراً، أو أن تتخلى عن أي زينة، أو أن توحي بالقبح، أو أن تكون كبيرة في السن حتى يُعطى كلامها فرصة لتقييم محايد، وقد لا تُعطى هذه الفرصة في كل الأحوال!
إن كل هذا الرفض والإقصاء مصدره الخوف العميق من المرأة، فحين يرفض الرجل حضور الأنوثة في ميادين العمل الجدية، فذلك لأنه يخشى سلطة الأنوثة وقوتها، يخشى ضعفه الفطري أمامها، فهي تهز ثقته بنفسه، وتخدش صورته المتضخمة عن نفسه، وتشكِّكه بحكمته، وعقلانيته ورشده.
إنه لا يقبل ضعفه الفطري هذا، ولا يريد الاعتراف به!
ولكن الأنوثة أمر لا يمكن طمسه في المرأة دون تكلف ومشقة واصطناع، ولا يمكن أكثر من التخفف من سلطته بالحشمة والرزانة، وإن ميل المرأة للتزين في غير ابتذال، حقٌّ كفله لها كتاب الله، وطبيعةٌ أنثويةٌ لا تتعارض مع ملكة التفكير والعمل الجاد.
ثم لا جناح على الرجل والمرأة بعدها أن يعملا معاً، دون أن يشعر الرجل بالفزع من رؤية المرأة، أو وجودها إلى جانبه!
ولذا بدأتُ بالعودة إلى ذاتي، بدون إضافات مصطعنة، غير آبهة بالطريقة التي تُقيم بها كتاباتي، ولا إن كنت سأُمنح الاستحقاق والثقة أم لا! بل صرتُ أشفق على أصحاب العبارات الساذجة، الذين يتركون ما أكتب، ليعلقوا في فزع على قلادتي، أو كحلي، أو ألوان ثيابي!
إن ثقتي بما أكتب، تنبع منِّي أنا، ولا تُوهب لي من آخرين، وإن أنوثتي أمر واقع سيعتاد القلقون على وجوده شيئاً فشيئاً، دون أن أحتاج إلى التنكر له أو تزييفه أو طمسه!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.