“يا بلح زغلول” و”الليلة يا سمرا”.. كيف أجادت الشعوب العربية “تشفير” أغانيها؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/11/18 الساعة 12:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/11/18 الساعة 12:45 بتوقيت غرينتش
رجلان من صعيد مصر/ Istock

من قديم الزمان عرف العرب "التورية" التي هي جزء أساسي من علم البديع في اللغة، والتورية في معناها المعجمي هي إخفاء الشيء، أما معناها المقصود فهو ذكر كلمة أو لفظ معين يحمل معنيين، الأول هو المعنى الأسهل والأقرب للذهن، والمعنى الآخر يكون هو البعيد عن الذهن ويكون هذا المعنى الخفي هو المعنى المقصود.

عشق العرب هذا الجزء من علم اللغة، بل وظهرت عشرات المؤلفات في هذا الفرع مثل "حل الرموز ومفاتيح الكنوز" لجابر بن حيان، و"المعنى" للفراهيدي وغيرهما.

بطبيعة الحال تكونت علاقة وطيدة بين الشعر والتورية، خصوصاً حين يرغبون في التواصل بينهم بمفردات "مشفرة" دون أن ينكشف أمرهم، حتى إن أبا حيان التوحيدي يروي في كتابه "البصائر والذخائر" قصة مجموعة من الناس كانت تتكلم لغة لم يسمعها من قبل، ولم تكن حتى قريبة من اللغات التي تألفها أذنه، وعند سؤاله عن هذه اللغة وجد أنها لغة اللصوص قد ابتدعوها للتواصل فيما بينهم فلا يفهم العامة المقصود من حديثهم.

هنا وعلى مر عدة قرون ولاختلاف الأسباب كان من الطبيعي أن يتطور أمر التشفير هذا ليتقاطع مع الأغنية خاصة في ظل وجود سلطات سياسية وأخلاقية متشددة.

الترويدة الفلسطينية

الترويدة هي نوع من التراث الغنائي ظهر في فلسطين قائم على فكرة "التشفير" حتى لا يتسنى للمستعمر أن يفهم المراد منه، خاصة إن كان يتعلق الأمر بتمرير رسائل خاصة بين المعتقلين وأهلهم، وتقوم فكرة التشفير في الترويدة على أساس قلب الحرف الأخير من كل كلمة وإضافة حرف اللام في نهايتها.

ترويدة شمالي

غنت هذه الترويدة النساء الفلسطينيات لتبشير ذويهن في معتقلات الاستعمار البريطاني باقتراب خلاصهم وأن الفدائيين يجهزون لتخليصهم من سجنهم.

وأنا ليليلبعث معليلريح الشمالي لالي يا رويللووو (وأنا الليلة لبعث مع الريح الشمالي)

ياصليلار ويدورليللي على لحبيليلابا يا رويللووو (يوصل ويدور على الحباب يابا)

يا هللوا روح سلللملي على للهم يا رويللووووو (يا هوا روح سلملي عليهم)

وطالالالت الغربة الليلة واشتقنا ليلي للهم يا رويللوووو (وطالت الغربة واشتقنا لهم)

يا طيرلرش روح للي للحباب واصلللهم يا رويللوووو (يا طير روح للأحباب ووصل لهم)

يا طالعين الجبل

تعتمد هذه الأغنية في بنيتها على نفس تكوين الترويدة وتسرد واقعة تحرير مجموعة من الفدائيين من المعتقل في فترة الانتداب البريطاني في منتصف ثلاثينات القرن العشرين.

يا طالعين عين للل الجبل يا موللل الموقدين النار

بين لللل يامان يامان عين للل هنا يا روح

ما بدي منكي لللكم خلعة ولا لالالا لابدي ملبوس

بين للل يامان يامان

عين للل الهنا يا روح

ما بدي منكي لللكم خلعة ولا لالالالا بدي زنار

بين للل يامان يامان

عين للل الهنا يا روح

هذه الأغنية والتي نشأت في الشمال الفلسطيني تتحدث عن "الغزال"، والمقصود به الفدائيون، أنهم آتون في الليل لتحرير الأسرى، وأن إشارة بدء العملية هي عندما يرون النار موقدة. حتى يفهم الأسرى الرسالة، وينتظروا تحريرهم الذي لم يطل كثيراً.

تلك الفترة التي شهدت بداية النضال النسوي الفلسطيني وظهور حركات مقاومة نسائية مثل "رفيقات القسام" و"زهرة الأقحوان" وتشعب دور المرأة في المقاومة وعملن على إخفاء السلاح وتوصيله مع الوجبات الغذائية للفدائيين في الجبال، ونقل الرسائل الهامة للثوار.

الرطانة

الرطن في المعجم هو التحدث بكلام غير مفهوم، حتى أنه حالياً في الشارع العربي يطلقون هذا المصطلح على الشخص الذي لا يفهمون كلامه، (بيرطُن)، نشأت لهجة الرطانة من خلط عدد من الكلمات لتمثل عقداً لغوياً سرياً، بين بعض المجموعات للحفاظ على خصويتهم مثل الطلبة الذين لا يريدون للمعلم أن يفهمهم.

وأشهر استخدام لتلك اللهجة وما شابهها كان استخدام اللهجة النوبية في توصيل الرسائل أثناء حرب أكتوبر حتى لا يستطيع العدو أن يتعقبها أو يفهمها، فتلك اللهجات لا تتم كتابتها وليس لها مفسرون خارج دائرة تلك المجموعة الخاصة بها.

التزمامرتية

ذكر أحمد المرزوقي في كتابه "تزممارت الزنزانة رقم 100" عن وجود لغة مشفرة اخترعها السجناء للتواصل فيما بينهم في معتقل تزممارت في المغرب الذي ضم المعتقلين العسكريين الذين شاركوا في انقلاب الصخيرات 1971.

 يا بلح زغلول

يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح

يا بلح زغلول يا زرع بلدي

عليك يا وعدي يا بخت سعدي

زغلول يا بلح يا بلح زغلول

يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول

عليك أنادي في كل وادي

قصدي ومرادي

ظهرت هذه الأغنية في نهاية القرن الـ19 بعد التفاف الشعب المصري حول منزل الزعيم سعد زغلول، إذ بعد اشتداد الثورة وأصبح كل شعب مصر يهتف في الشوارع والميادين باسم سعد زغلول لم يجد الاحتلال البريطاني مفراً من إصدار فرمان عسكري بالسجن المشدد وعشرين جلدة لكل من يهتف باسم سعد زغلول.

فقام سيد درويش بتلحين أغنية يا بلح زغلول وغنتها نعيمة المصرية، فأصبح كل الشارع المصري بكل طوائفه يغني هذه الأغنية ويقصدون سعد زغلول دون أن يعرض نفسه للمساءلة القانونية بالهتاف باسم سعد زغلول فلا يوجد في قانون الحاكم العسكري محاكمة لمن يغني للبلح، ثم حول سيد درويش تلك الأغنية لاستعراض غنته زينب محمد إدريس والشهيرة بنعيمة المصرية.

أحزان القرد

أحزان القرد هي أغنية كتبها الشاعر فؤاد قاعود ولحنها وغناها الشيخ إمام من مقام العجم برشاقة وإحساس عالٍ وهو يصف حال المواطن العادي بشكل غير مباشر عن طريق وصفه لحركات القرد المربوط وهو يمتثل لأوامر مدربه خوفاً من ضرباته المؤذية.

الليلة يا سمرا

في ستينات القرن الماضي تم اعتقال الفنان محمد حمام بسبب أغانيه السياسية وتصادف في المعتقل ذكرى ميلاد صديقه السياسي زكي مراد ابن قرية إبريم، فكتب الشاعر فؤاد حداد والذي كان هو أيضاً يشاركهم نفس الزنزانة أغنية "الليلة يا سمرا"، ولحنها الفنان أحمد منيب وغناها محمد حمام.

وبعد خروجهم من السجن قرر حمام أن يسجلها في الإذاعة المصرية ولاقت الأغنية نجاحاً كبيراً في ذلك الوقت، ويغني حمام لمصر عن طريق تصويرها بالفتاة السمراء، وذهب الجميع لترميز الأغنية بعد صدورها بصوت الفنان محمد منير أن المقصود بالمقطع هو استرداد طابا من "إسرائيل".

سرقوا الصندوق يا محمد لكن مفتاحه معايا

تلك الأغنية التي كتب كلماتها بديع خيري ولحنها سيد درويش ويقول فيها بلهجة سودانية:

جالت لي هالتي (خالتي) أم أحمِد كلمايه ( كلمة ) في متلايــــه

سرقوا الصندوق يا محمد.. لكن مفتاحه معايا

يا مصيبة وجاني من بدري.. زي الصاروخ في وداني

مافيش حاجة اسمه مصري.. ولا حاجة اسمه سوداني

وتتحدث الأغنية عن فكرة الانقسام بين مصر والسودان واعتمدت بديع خيري على المثل السوداني الشهير "سرقوا الصندوق يا محمد لكن مفتاحه معايا"، في إشارة إلى عدم وجود فرق بين مصري وسوداني، ولكن هل يكفي المفتاح فقط ليعوض سرقة الصندوق؟!

أنا يوسف يا أبي

 أَنَا يُوسُفٌ يَا أَبِي. يَا أَبِي، إِخْوَتِي لَا يُحِبُّونَنِي، لاَ يُريدُونَنِي بَيْنَهُم يَا

أَبِي. يَعتدُونَ عَلَيَّ وَيرْمُونَنِي بِالحَصَى وَالكَلَامِ يُرِيدُونَنِي أَنْ أَمُوتَ لِكَيْ

يَمْدَحُونِي. وَهُمْ أَوْصَدُوا بَابَ بَيْتِك دُونِي. وَهُمْ طرَدُونِي مِنَ الحَقْلِ

هُمْ

سَمَّمُوا عِنَبِي يَا أَبِي. وَهُمْ حَطَّمُوا لُعَبِي يَا أَبِي. حِينَ مَرَّ النَّسِيمُ وَلَاعَبَ

شَعْرِيَ غَارُوا وَثَارُوا عَلَيَّ وَثَارُوا عَلَيْكَ، فَمَاذَا صَنَعْتُ لَهُمْ يَا أَبِي؟

تلك القصيدة التي استوحاها الشاعر الفلسطيني محمود درويش من قصة النبي يوسف ليصف بها فلسطين المتروكة للذئب تحت أنظار أخوتها، غناها المطرب اللبناني مارسيل خليفة في ألبوم ركوة عرب عام 1995 وتعرض بعدها لعدة مشاكل بسبب غنائه لها.

نهايةً..

يكمن جمال استخدام الرمزية والتشفير في ذكاء استخدامها، فالأمر يحتاج إلى ذكاء شديد وبراعة في استخدام اللغة لكسر النمطية والحفاظ على النص دون تشويهه، فتظهر دائماً تلك المهارة عند الحاجة إليها سواء في أغاني الحشاشين والعوالم لإخفاء مقاصد إباحية، أو ما نشأ من تشفير في أصل الكلام نفسه مثل الملولة كلغة تعتمد على إيقاعات معينة بتبديل الحروف مكان بعضها.

وكذلك مثل طريقة تشفير "السنجة لمون" أو "السغة لمبة" وهي لغة كان يستخدمها المجرمون حتى لا يفهمهم الغرباء، وتعتمد هذه اللغة على حذف أول حرف من الكلمة المرادة وتبديله بحرف السين ثم وضع كلمة بعدها تبدأ بالحرف الذي تم حذفه في الكلمة الأولى فكلمة "سغة لمون" حين تطبق عليها القاعدة تصبح "لغة"، وبدأت هذه اللغة في العودة مرة أخرى عن طريق بعض الدعايات التلفزيونية مثل التي قدمها الفنان أحمد حلمي في إعلان "الساقة بلون" أي "الباقة" وأيضاً الفنان أحمد مكي والذي دشن حسابه الرسمي على موقع فيسبوك بوك باسم "سكي ملواني" والتي تعني "مكي".

وعلينا من هنا أن نفهم أن الناس سيجدون دائماً طريقةً ليقولوا ما يريدونه، مع التهرب بذكاء من عواقب كلامهم أو الظروف المقال فيها. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمود العطار
كاتب فلسطيني مصري وباحث في الموسيقى
باحث موسيقى فلسطينيّ مصريّ، ومؤسس جاليري "حيفا" في القاهرة، صدر لي كتاب بعنوان "حلّاج الأوتار" عن الموسيقى العربية في القرن العشرين، ولي عدة مقالات في التاريخ الموسيقي
تحميل المزيد