تسعى روسيا بشكل كبير لإعادة ترسيخ تفوقها في العلاقات الدولية المعاصرة؛ من خلال تحدي النظام الليبرالي الدولي والانضمام إلى مركز الصدارة في السياسة العالمية التي تهيمن عليها حالياً الولايات المتحدة والصين.
فبدأت روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي تدريجياً في إعادة تأكيد قوتها في السياسة العالمية خلال العقد الثاني من هذا القرن، وتطورت روسيا لمحاولة تأكيد مكانتها الدولية مثل ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، والمساعي الروسية لإعادة الهيمنة الإقليمية في أوروبا الشرقية للسيطرة على التطورات في أوكرانيا، والدعم العسكري الروسي الواضح للحفاظ على نظام بشار الأسد في الحرب السورية، وتوجد العديد من الأدلة التي تؤكد محاولة روسيا الاتحادية فرض نفسها كلاعب قوي في السياسة الدولية، فحاولت روسيا بشكل علني مواجهة الولايات المتحدة؛ من خلال بناء علاقات وثيقة مع إيران، ودول أمريكا اللاتينية، والصين المنافس الرئيسي للولايات المتحدة.
ولكي تحافظ على مصالحها في دول آسيا الوسطى فقد استعدت لوصول طالبان إلى حكم أفغانستان وساهمت في إضفاء الشرعية الدولية على حكم طالبان التي استولت على السلطة في أفغانستان في 15 أغسطس/آب 2021.
فتحاول روسيا أن تعيد فرض دورها في سياسات المناطق المجاورة مثل أوروبا الشرقية وغرب آسيا وآسيا الوسطى وجنوب غرب آسيا، فقد أصبح لها ديناميكيات توسعية واضح في القارة الإفريقية.
التوغل السياسي الروسي في دول القارة الإفريقية
خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى جنوب إفريقيا والمغرب في عام 2006، تعهدت روسيا باستثمار مليار دولار أمريكي في دول القارة الإفريقية، مما حدد وتيرة العلاقات الروسية الإفريقية.
وقبل ذلك اتخذت روسيا خطوة سخية بإلغاء ديون الدول الإفريقية البالغة 20 مليار دولار التي اقترضتها من الاتحاد السوفييتي السابق.
علاوة على ذلك عندما فرض الرئيس الأمريكي آنذاك أوباما عقوبات ضد الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم في ديسمبر/كانون الأول 2014 أصبحت روسيا متخوفة من ضغوط الغرب بقيادة الولايات المتحدة على سياستها الخارجية؛ لذلك بدأت روسيا في البحث عن حلفاء في القارة الإفريقية.
في أكتوبر/تشرين الأول 2019 كانت روسيا قادرة على تجميع الدول الإفريقية البالغ عددها 54 دولة، بما في ذلك رؤساء الدول الإفريقية البالغ عددهم 43 في سوتشي في أول قمة روسية إفريقية لتعزيز العلاقات الثنائية في مختلف المجالات مع الدول الإفريقية بطريقة أكثر منهجية تناسب استراتيجيتها التوسعية الجديدة.
فهناك العديد من العوامل التي تسعى روسيا للوصول إليها مثل السعي للوصول إلى موانئ المياه الدولية وكذلك الممرات المائية الدولية التي تتضمن نقاط التنافس الدولي، لاستخراج ثروة معدنية وفيرة، ولتلبية الطلب المتزايد على قطاع الطاقة، وإيجاد أسواق لبيع الأسلحة.
ومن بين السمات الفريدة للتوسع الروسي حقيقة أن الشركات الروسية المملوكة للدولة وكذلك الشركات العسكرية الخاصة، وخاصة شركة Wagner، وكذلك الوجود الروسي على وسائل التواصل الاجتماعي- تبذل جهوداً متضافرة لتعزيز المصالح الروسية في إفريقيا، فمن الواضح أن السياسة الروسية في إفريقيا تحتاج إلى النظر إليها وتحليلها في هذا السياق.
أدى سعي روسيا للوصول إلى الموانئ الدولية والاستفادة من عائدات النفط من شرق ليبيا إلى مشاركتها في الحرب الأهلية الليبية، فليبيا بالنسبة لروسيا تعتبر من الدول الغنية بالنفط والغاز الطبيعي وذات موقع جغرافي على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
وقد شهدت ليبيا حرباً أهلية طويلة منذ سقوط نظام القذافي في عام 2011 الذي كان حليفاً دولياً في منطقة شمال إفريقيا لروسيا، وفي هذه الحرب دعمت الأمم المتحدة حكومة الوفاق الوطني ومقرها طرابلس، والتي كان يقودها سابقاً فايز السراج (2016-2021) ويقودها حالياً رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، التي لديها سيطرة كبيرة على غرب ليبيا.
وفي مواجهة نظام حكومة الوفاق الوطني، يقف الجيش الوطني الليبي ومقره طبرق بقيادة اللواء خليفة حفتر والذي يعمل في الشرق الليبي بدعم من روسيا؛ حيث زودت روسيا حفتر بطائرات ميج 29 وسوخى 24 بالإضافة إلى صواريخ أرض جوSA 22 وأنظمة مضادة للطائرات، كما دعمت من خلال شركة فاغنر حفتر بقوات عسكرية.
وعلى الرغم من التراجع العسكري لميليشيات خليفة حفتر المدعومة من روسيا في منتصف عام 2020 استمرت روسيا في تواجدها في ليبيا بهدف ترسيخ مكانتها كفاعل قوي في المنطقة الجنوبية لحلف شمال الأطلسي (الناتو).
علاوة على ذلك تدعم مصر وروسيا حفتر لمواجهة النفوذ التركي في شرق البحر المتوسط، حيث تقع الاتفاقية الصناعية بين روسيا ومصر واستثماراتها بما في ذلك في المجال النووي المدني، بالقرب من قناة السويس في مصر.
إلى جانب ذلك، قامت روسيا بتصدير أسلحة بقيمة 4 مليارات دولار أمريكي لمصر بالإضافة للمناورات العسكرية بين الجيشين المصري والروسي وآخرها المناورة البحرية التي تمت مع مصر في يونيو/حزيران 2021، وبصرف النظر عن الوصول إلى قناة السويس عبر مصر تنشط روسيا في دول القرن الإفريقي للوصول إلى موقع قدم في البحر الأحمر.
فعلى سبيل المثال في القرن الإفريقي كان لروسيا تواجد وكذلك شركة فاغنر الروسية للدفاع عن نظام عمر البشير في 2018-2019 في دولة السودان الغنية بالنفط والذهب وذات الموقع الاستراتيجي.
فعلى الرغم من أن روسيا لديها اتفاق بحري بشأن ميناء بورتسودان على ساحل السودان على البحر الأحمر، فإن السودان يقوم بمراجعته، لكن حديثاً بعد انقلاب البرهان رئيس المجلس السيادي على حكومة عبد الله حمدوك صرح العديد من التصريحات التي تؤكد استمرار الاتفاق السوداني الروسي حول ميناء بورتسودان، وخصوصاً بعد عرقلة روسيا قرارات من مجلس الأمن تدين انقلاب البرهان الأخير على حكومة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك.
ومع ذلك من أجل الوصول إلى البحر الأحمر، تتفاوض روسيا أيضاً مع دول مثل إريتريا للوصول إلى موانئ مصوع وعصب، ومع أرض الصومال للوصول إلى ميناء بربرة.
وإذا تحققت المفاوضات، ستتمكن روسيا من الوصول إلى مضيق باب المندب واليمن وقناة السويس بينما ستكون جغرافياً أقرب إلى دولة جيبوتي؛ حيث تمتلك الصين والولايات المتحدة قواعد بحرية فيها.
وأثناء السعي وراء مصالحها، تعمل روسيا أيضاً ببراعة من خلال شركة فاغنر، وهي شركة تتمتع بعلاقات غامضة مع الدولة الروسية، حيث حاولت شركة فاغنر في كثير من الأحيان التدخل في السياسات المحلية للدول المبتلاة بالأزمات الاقتصادية والفقر والصراعات الداخلية وعدم الاستقرار السياسي.
فعلى سبيل المثال دعمها للرئيس (فوستين أرشانغ تواديرا) رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، وهي من الدول الإفريقية الغنية بالموارد ولديها رواسب كبيرة من اليورانيوم من خلال دعمه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ديسمبر/كانون الأول 2020، وعلى الرغم من صد قوات شركة فاغنر الأمنية لهجمات المتمردين خلال انتخابات جمهورية إفريقيا الوسطى، فقد ورد أنهم كانوا يتفاوضون بشأن صفقة تقاسم الإيرادات مع المتمردين للسيطرة على مناجم الذهب والماس في شمال إفريقيا الوسطى.
تجارة الأسلحة الروسية في القارة الإفريقية
تعتبر تجارة الأسلحة من أهم محركات السياسة الروسية في إفريقيا، فمنذ عام 2014 وقعت وكالة مملوكة للدولة تقوم بتصدير المنتجات والخدمات العسكرية تسمى Rosoboronexport اتفاقيات ثنائية متعددة مع دول مثل أنجولا وغينيا الاستوائية ومالي ونيجيريا والسودان، وتتضمن هذه الاتفاقيات نصوصاً للتدريب المشترك للقوات ومكافحة الإرهاب، حيث تلعب روسيا دوراً محورياً في الدول الغنية بالموارد في منطقة الساحل مثل نيجيريا وتشاد ومالي وبوركينا فاسو في عمليات مكافحة الإرهاب، وكذلك لها نشاط ملحوظ في دولة مالي بعد الانقلاب المالي في ديسمبر/كانون الأول 2020، حيث إنه تم تدريب كبار الضباط من مالي في روسيا وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام (SIPRI).
لقد صدرت روسيا 18% من أسلحتها إلى إفريقيا بين 2016-2020، وكانت الجزائر هي المستفيد الأول بين عامي 2015 و2019، حيث استحوذت روسيا على 37.6% من سوق الأسلحة الإفريقية وهو ما يفوق صادرات أسلحة للولايات المتحدة لإفريقيا والتي تصدر ما نسبته 16%، وفرنسا بنسبة 14%، والصين بنسبة 9 %.
الأنشطة الاقتصادية الروسية في إفريقيا
تبلغ التجارة السنوية لروسيا مع الدول الإفريقية حوالي 20 مليار دولار أمريكي، وهو ما يمثل عُشر تجارة الصين فقط، ومع ذلك بدأت الشركات الروسية المملوكة للدولة والشركات الخاصة في مجال الطاقة تلعب دوراً رئيسياً في إفريقيا، فعلى سبيل المثال تعمل شركات النفط والغاز والطاقة النووية مثل غازبروم ولوك أويل وروستيك وروساتوم في الجزائر وأنجولا وأوغندا ومصر.
كما تحصل روسيا على امتيازات لإنتاج الغاز البحري في موزمبيق، ونظراً لصعوبة استخراج المعادن الروسية داخل الأراضي الروسية فهي تعتمد على زيمبابوي للحصول على عناصر البلاتين من المعادن، وناميبيا للحصول على اليورانيوم، وأنجولا للحصول على الماس، كما تمتلك شركة روسال أكبر شركة منتجة للألمنيوم في روسيا، مصلحة كبيرة في تعدين البوكسيت في دولة غينيا، حيث دفع هذا روسيا إلى التدخل في الشؤون الداخلية لغينيا، وذهب المبعوث الروسي آنذاك إلى غينيا، أي ألكسندر بريجادزه، إلى حد دعم الرئيس ألفا كوندي لولاية ثالثة في عام 2019 على الرغم من عدم دستوريتها، وفي النهاية فازت كوندي بولاية ثالثة، في أكتوبر/تشرين الأول 2020 وسط احتجاجات عنيفة شهدتها غينيا حتى حدوث الانقلاب العسكري الأخير.
روسيا وقوة إفريقيا بالأمم المتحدة
تدرك روسيا قوة إفريقيا في الأمم المتحدة؛ حيث تضمن إفريقيا ثلاثة أعضاء دائمين في مجلس الأمن الدولي و54 دولة عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة وخلال السنوات القليلة الماضية، انحاز الأعضاء الأفارقة الثلاثة الدائمون في مجلس الأمن الدولي "كوت ديفوار وغينيا الاستوائية وجنوب إفريقيا" إلى جانب روسيا في قضايا مهمة مثل عدم السماح بإجراء تحقيقات في الانتخابات المزورة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، بالإضافة لعدم إدانة الانقلاب العسكري في السودان من خلال التذرع بمبدأ عدم التدخل، وعدم إدانة تصرفات أمير الحرب خليفة حفتر في ليبيا من خلال منع القرار الذي ترعاه المملكة المتحدة بشأن وقف إطلاق النار في ليبيا.
الدور الروسي في هجمات المعلومات المضللة
لقد اكتسبت روسيا سمعة سيئة بسبب عملها على وسائل التواصل الاجتماعي في حملات التضليل للتأثير على الرأي العام الإفريقي، فبشكل عام تنغمس روسيا في نشر رسائل مؤيدة لروسيا ومعادية للغرب؛ من خلال إنشاء مضيفين أفارقة في محاولة لمنح حق الامتياز لنموذجها، حيث تم ربط حسابات المضيفين الأفارقة بمجموعات الأوليجارشية الروسية التي تربطها علاقات طويلة وقوية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تم اتهامه بالتدخل في الانتخابات الأمريكية.
وقد شوهدت حسابات مرتبطة بمجموعات الأوليجارشية في دول إفريقية مثل أنجولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغينيا وغينيا بيساو وزيمبابوي ومدغشقر وموزمبيق للترويج والدعاية لروسيا وقراراتها، ولقد كان تحديد مثل هذه الحسابات وإزالتها عملاً قيد التقدم.
ففي أكتوبر/تشرين الأول 2019، أزال موقع Facebook عشرات الحسابات لملفات شخصية مزيفة تبدو أنها كانت تعمل بشكل منسق لنشر حملة تضليل في الدول الإفريقية، وتم توثيق حملات التضليل هذه بشكل جيد في ليبيا منذ يناير/كانون الثاني 2019 حيث انتقدت الحملة حكومة الوفاق الليبية بقيادة فايز السراج المدعومة من الأمم المتحدة وسلطت الضوء على دور روسيا كقوة لاستقرار ليبيا وبالمثل بعد الانقلاب في مالي في ديسمبر/كانون الأول 2020.
وبفضل حملة التضليل كانت هناك رسائل مؤيدة لروسيا، وفي غانا تم نشر شركة متخصصة بوسائل التواصل الاجتماعي تعمل برعاية روسية لإثارة الاستقطاب، وفي جنوب إفريقيا حاولت روسيا تصعيد التوترات العرقية من خلال رسائل وسائل التواصل الاجتماعي.
الخاتمة
باختصار، برزت روسيا كقوة لا يستهان بها في إفريقيا، ولقد دفع السعي الحثيث وراء المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية والتجارية والاقتصادية لروسيا إلى دعم الأنظمة الديكتاتورية والتودد إلى الدول الإفريقية الوليدة والغنية بالموارد.
في هذه العملية تدخلت روسيا في السياسة الداخلية لمثل هذه الدول من خلال تجاهل اعتبارات حقوق الإنسان والديمقراطية؛ نظراً لأن نظام بوتين الاستبدادي لا يهتم بالديمقراطية ولا بنظام دولي ليبرالي قائم على القواعد الديمقراطية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.