في اليوم الذي أقر فيه البرلمان العراقي بموازنة 2021 خفض سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار بسعر 1450 ديناراً لكل دولار- وهو السعر الذي بدأ البنك المركزي العراقي تثبيته والتعامل به مع أصحاب المصارف والبنوك الأهلية- أثير الكثير من الجدل في الأوساط الإعلامية والشارع العراقي.
وكانت الكتل السياسية قد أيدت القرار للحد من تهريب العملة الصعبة خارج البلاد أي "الدولار"، والذي تسبب في نقص احتياطي البنك المركزي من العملة الصعبة على مدى السنين السابقة، لكن بعدها تفاجأ المراقب الأقتصادي بأن مزاد عملة الدولار زاد ولم ينقص، ولأن الميزان التجاري للدولة العراقية يعتمد بشكل رئيسي على الصناعات الاستخراجية وتصدير المواد الأولية المعدنية ومواد الطاقة دون تحويلها، فهذا النوع من الاقتصادات يفتقد إلى التنويع، ودائماً ما يكون عرضة لتقلبات أسعار المواد الأولية في الأسواق العالمية، وهذا ما حدث خلال أزمة كورونا وانخفاض الطلب العالمي على النفط.
وقد سبق أزمة الكورونا، رفع دول منظمة الأوبك كمية الإنتاج النفطي؛ وهذا ما أثر سلباً على أسعار النفط في الأسواق العالمية قبيل أزمة كورونا والتي كانت القشة التي قصمت ظهر ذوي الدخل المحدود ممن يتقاضون رواتب أقل من 750 دولاراً، وأما أصحاب الأجور اليومية، فهذه الشريحة عاشت معاناة جمة في عبور أزمة كورونا بأقل الخسائر الممكنة.
ولأن المصدرالوحيد للدولة العراقية في الحصول على العملة الصعبة هو تصدير النفط الأسود والذي يعتبر المادة الوحيدة التي ينتجها ويصدرها العراق إلى الخارج وهي المادة الوحيدة التي يعتمد عليها الميزان التجاري للعراق، فإن الحقيقة المرة أنه لا يوجد في العراق "ميزان تجاري" .
وفي الأدبيات الاقتصادية يعرف الميزان التجاري بقيمة الصادرات من السلع التي أنتجت داخل البلد وبيعت لمقيمين في الخارج، تقابلها قيمة السلع التي استقدمت من خارج البلد.
فالكثير من الدول تعمل على تحقيق ميزان تجاري تفوق فيه قيمة الصادرات على الواردات، ولكنها في نفس الوقت لا تستطيع أن تحقق الاكتفاء الذاتي؛ فهو مجرد خرافة.
أما في حالة العراق فهو لا يمتلك إنتاجاً محلياً يغطي طلب المستهلك العراقي، فكيف بتصديره إلى مستهلك خارجي، وهذا بسبب أن الحكومات السابقة كانت منتشية بالأسعار الباهظة للنفط، ولذلك لم تولِ أي أهمية للمنتج المحلي خلال السنوات السابقة.
ولم ترعَه بشكل الذي الذي يليق به، بل بالعكس فقد أهملت هذا المنتج وفضلت عليه المنتج المستورد الذي فتحت له جميع الأبواب وكل التسهيلات، وقد ساهمت بذلك في إعدام آمال كل الراغبين في الاستثمار في المنتج المحلي؛ فضلاً عن أنها لم توفر بيئة آمنة للمستثمر الداخلي ولا حتى الخارجي الراغب في الاستثمار داخل العراق.
إلى أن اصطدمت السفينة بجبل الجليد سنة 2020 عندما تفشى فيروس كورونا قادماً من الصين لكي يفتح كل البلدان والأمصار التي لم يتمكن منها الغزو المغولي، فاتحاً على جميع الحكومات أبواباً جديدة من الكوارث الإنسانية والاقتصادية التي ما زالت بعض البلدان تعاني منها حتى هذه اللحظة ومنها الحكومة العراقية المعروفة بتسرعها في جميع قراراتها، والتي دائماً ما تضع أولويات الأوليغارشية بالأحزاب السياسية في مقدمة أي قرار تتخذه.
ولأن هذه الحكومة والتي سبقتها هي نتاج للنظام التوافقي فيما بينها، أما المواطن من أصحاب الدخل المحدود والأجور اليومية، وهنا لا أخص بحديثي من ارتفع دخله الشهري أكثر من ألف دولار، "فهؤلاء لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون"، وإنما أخصّ هنا الشريحة التي قاربت خط الفقر، والتي تعدت الخط وابتعدت عنه كثيراً، وتلك التي لا تمثل إلا الهامش وسوف تبقى على الهامش بالنسبة لصانع القرار الحكومي المتسرع دائماً على عادته.
إن القرار الذي اتخذته الحكومة العراقية في يناير 2021 القاضي بخفض قيمة الدينار مقابل الدولار، يعتبره بعض الخبراء الاقتصاديين أنه جاء في الوقت المناسب ليطوي صفحة من الاقتصاد الهزيل، فيما اعتبره آخرون قراراً متسرعاً وما بينهما كان الأجدر بالحكومة العراقية أن تتخذه على مراحل، وأن توفر البدائل وتضع الخطط الاقتصادية التي تعمل على ردم كل الآثار الناجمة عن كل مرحلة تطبقها من قرار خفض قيمة الدينار والتي تساهم كما تخيل صانع القرار في خفض الطلب على مجموعة من المنتجات والخدمات المستقدمة من الخارج إلى داخل والتي باعتقاده سوف تنعكس بشكل إيجابي على الناتج المحلي،
والذي سيؤدي بدوره إلى ارتفاع الطلب الداخلي تلقائياً وزيادة إقبال المستهلك على السلع المحلية، ما ينعكس على حاجة المنتج وموزعيها ومن يعملون ببيعها إلى زيادة الإنتاج الذي سيعمل على خلق فرص عمل جديدة.
لكن كل هذا كان مجرد خيال ووهم يسبح فيه صناع القرار، لأن هذا القرار تطبقه تلك البلدان التي تمتلك إنتاجاً محلياً قوياً ومتماسكاً رصيناً، وليس حاله كحال العراق الذي تبادله التجاري مع جميع جيرانه يقارب 75 مليار دولار وهو في حقيقة الأمر تبادل من طرف واحد فقط.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.