لعل آخر مشهد حفظته ذاكرتي المتعبة ضحكاته المتثاقلة وهو على فراش الموت يصارع أيامه الأخيرة متمسكاً بالحياة التي رغم حبه لها خذلته، فغادرها في عقر داره وسط أحبابه على مشارف فجر أحد أيام الشتاء الباردة..
هكذا رحل جدي دون أن يترك خلفه الكثير، لا يوجد ميراث مادي، لا ساعات ثمينة ولا أراضي ولا عقارات، وحتى لا أرصدة بنكية، أقولها بفخر واعتزاز، فجدي عاش بسيطاً راضياً غير متأفف أو متذمر! لكنه رغم بساطة عيشه كان متمسكاً بقواعده الخاصة التي ساعدته على الصمود في وجه الحياة المتقلبة.
تثقلنا الحياة وتأخذنا بعيداً كأمواج بحر هائج ثم نغرق حد حلقومنا، وفي عز اختناقنا ندرك أنها زائلة فانية، وما هي إلا وهم كبير يعج بالضجيج المزيف واللوحات الوهمية.
عندما أتكلم عن جدي، فأنا أتكلم عن عالم رائع، عن دنيا جميلة، عن وطن كبير، وحب لا يموت أبداً.
يجب علينا أن ندرك أن الجد حالة استثنائية، في الرجولة والحنان والحب والصدق، فهو علاقة جميلة لن تتكرر أبداً مع أي رجلٍ آخر. حفظت أسرار جدي عن ظهر قلب فتعامله مع الحياة كان بسيطاً جداً كبساطة ابتسامته التي لا تحتاج إلى سبب، هي ابتسامة مجانية من القلب إلى القلب.
بساطة العيش
لم يعنه يوماً حمل هاتف أو فتح حساب بنكي أو حتى جهاز كمبيوتر، يذهب جدي إلى عمله المتواضع، فلا ينسى قبعته في أيام الشتاء لتغطية رأسه الصلعاء، ولا ينسى عطره الجميل ليبدأ نهاراً جديداً. في ذلك الحي العتيق حلاق مُسن من هنا وفوال شاب من هناك، صباحات وسلامات مع فنجان قهوة وابتسامة، وكما يقال الأرزاق على الله، لا أذكر عبوس جدي في وجه أحد أو نفوره. كان عاشقاً للفن والجمال. بقالة جدي صغيرة جداً لا تكاد تتسع لشخصين، يجلس على كرسيه الخشبي وكأنه يملك أكبر شركات الوطن ثم يفتح تلفازه الصغير الذي يبث بضع قنوات أقربها إلى قلبه عالم الحيوان.
أكثر شيء كان يسعده رحلاتنا إلى ضفاف النهر مع جموع الأهل والأحباب. كان قليل الكلام والطعام، سهل العشرة وحلو الحديث والكثير الكثير من خفة الظل، لا وجود للسياسة في حياته ولا قيل ولا قال، وكأنه في عالم خاص بعيد عن حاضرنا المعقد.
أكاد أجزم بأن جدي لم يسمع في حياته عن فريديرك نيتشه، ولكن دون أن يدري فقد اتفق معه حين قال: "كن بسيطاً فإن البساطة بذاتها جمالاً".
التسامح والطيبة
عاش أكثر من ثمانين عاماً دون أن يتشاجر مع أحد، لا أعرف ما سر هذه الطيبة ولكنها أقرب للمستحيل، فلم يدر بالاً للكلمات ولا للأذى!
لا أقصد هنا إظهار جدي بالملاك ولكنها الحقيقة، فلم يكن قوي البنية ولا حتى يملك علماً كبيراً ولا حكمة حتى، لكنه أدرك أن المشاكل والشجار لا تعطي بل تأخذ، تأخذ من صحتنا النفسية والجسدية معاً، وكيف ينام جدي ويضع رأسه على تلك المخدة القديمة وهو يكره فلان ويحقد على علان؟ كأن أحمالاً ثقيلة على صدره! فليذهب الحقد إلى الجحيم حيث الجهلاء والأشرار ففي عالم الطيبة لا شيء أقوى من التسامح.
أذكر أن مجموعة من الشبان يوماً تسببوا بعد شجار بالقرب من محل جدي في تحطم واجهته رغم هذا فقد كان سعيداً بأنه لم يصب بأذى. بعد عراك الشبان وبعد فترة جاء الشبان معتذرين، كان جدي قد أصلح الواجهة وصفح عنهم وشربوا القهوة معاً.
بموقف صغير عرف معنى آية التسامح الشهيرة "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين".
في عزائه كان الشبان أول الحاضرين وكأن من توفى صديقهم وليس ذلك الكهل التي ملت الدنيا من أقدامه فاختارت له الراحة الأبدية.
عجباً من كل هذا الحضور في مأتمه وكأن الرجل يعرف الدنيا كلها ولكن الجميع لمس طيبته التي جعلت من صمته الطويل موسيقى مست قلوب الناس.
صبر جميل
هي العبارة التي كثرت على لسان جدي عند اشتداد مرضه فقد كان سرطان الرئة شديداً عليه، حيث أدى إلى تفتت رئته وتمزقها وبعدها توفي مختنقاً. لم يخبره أحد عن مرضه ولم نتحدث عنه ولم يسأل حتى، لكنه أدرك أن من يهاجمه هو قدره المحتوم فاختار أن يصبر. ولكن كيف لهذا الصبر أن يكون جميلاً؟ وسط هذا المرض والمأساة.
كان يدندن لي صباحاً بعض الموسيقى القديمة، لم يفارقه العطر حتى عندما لزم فراشه، لم نشعر بألمه رغم مشاهدتنا لبعض قطع الرئة التي تخرج من فمه عند السعال. كان الطبيب يقول إن هذا الألم لا يحتمل لكننا لم نكن نسمع منه شكوى إطلاقاً فكان يأخذ مسكناته بكل صمت وهدوء ثم يحكي لي عن طفولته التي كانت في فلسطين قبل الاحتلال وعن حديقة البلدية في عكا ومزروعات والدته في البلدة القديمة وعن السور والأزقة وشجرة التوت.
جدي عاصر النكبة الفلسطينية 1948، والحرب اللبنانية الأهلية 1975، ثم الاجتياح الاسرائيلي على لبنان 1984، ناهيك عن التوترات وحرب تموز 2006، لكنه خرج منها جميعاً وعرف معنى الصمود والقوة والحب.
أحياناً علينا أن نأخذ قسطاً من الراحة والاستمتاع بكل لحظة في حياتنا مع من نحب ونسامح قبل فوات الأوان، لأنه إذا جاء وقت الرحيل سندرك بعدها أننا أضعنا الكثير من الوقت على ما لا يهم.
ما دمنا أحياء فلا انقطاع عن المشاكل وعن الألم ولا يوجد هناك حد للتغيرات والتقلبات، وانتهاء المشاكل يعني انتهاء الحياة.
السر هو في طريقة التعامل معها بكل حزم ورباطة جأش، فلا داعي أن نحمل شيئاً فوق قدره ولا داعي للانفعالات المبالغ فيها. ومن قال إن المال سر السعادة مخطئ، ومن قال إن الرفاهية تساوي السعادة؟ السعادة هي في البساطة وهي قرار في نفس كل إنسان. هو من يختار السعادة أم سيمضي حياته يجري حتى نهاية العمر.
جدي الحبيب.. رحم الله ضحكتك التي لا تنسى أبداً وبسمتك التي لا تغيب عن بالي، جدي الحبيب عليك السلام في قبرك يا فقيد قلبي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.