يبدو أنني سأعاود خلط الرياضة بالسياسة.. في مقال سابق تحدثت عن كيف تعلمت السياسة من خلال مشاهدة الدوري الإنجليزي. والآن، أجدني أفكر بطريقة شبيهة، لو كان علينا أن نختار في الوطن العربي من بين مدربي كرة القدم الحاليين مدرباً يصلح نموذجه في التدريب وإدارة الفريق لحل المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجهنا في العالم العربي، فمن يكون هذا المدرب؟
لو كانت دولنا العربية فرق كرة قدم، فإنا أغلبها مهدد بالهبوط من دوري الدرجة الأولى. فلا يوجد أي منها في الدوري الممتاز أصلاً. وحتى دول الخليج التي لديها وفرة في الأموال والثروات فإنه تغيب عنها شروط أساسية للحاق بدور الممتاز. شروط مثل حكم القانون، والمشاركة الشعبية في صنع السياسات، ومحاربة الفساد، والإدارة الرشيدة للبشر والموارد والتداول السلمي للسلطة عبر آليات شعبية. وخلف ناطحات السحاب يوجد الكثير من المآسي الاجتماعية التي يتم إخفاؤها، وتهميش اجتماعي لشرائح اجتماعية ومذهبية.
كما أن هذه الناطحات نفسها دليل على عدم استخدام الموارد المتاحة بطريقة رشيدة. كل الدول العربية تلعب في دوري الدرجة الأولى على أفضل تقدير. ومع هذا، فإن أغلبها مهدد بالهبوط إلى دوري الدرجة الثانية بسبب سوء الأداء وضعف النتائج. في الدوريات الشبيه، عندما يعاني النادي من سوء النتائج فإن أول الحلول هو استبدال المدرب الحالي بمدرب آخر قادر على تحقيق نتائج أفضل. علينا إذاً تغيير المدربين بمدربين جُدد وأكثر كفاءة. لكن أي مدرسة تدريبية مناسبة بشكل أفضل للعالم العربي؟ من بين المدربين الحاليين المشهورين، أي منهم يعمل بنموذج تدريبي يناسب الأوضاع في الوطن العربي؟
عدت إلى الدوري الإنجليزي، فوجدت أن هناك منافسة مشتعلة بين ليفربول ومانشستر سيتي في السنوات الأخيرة. هذه المنافسة هي بين اثنين من أفضل المدربين في العالم حالياً: يورغن كلوب وبيب غوارديولا. يتشابه كلا المدربين في استخدام تكتيكات كروية مثل نسبة الاستحواذ المرتفعة والضغط العالي على الخصم، والتركيز على الفاعلية وتحقيق النتائج الإيجابية. لكن بخلاف ذلك يوجد بينهما اختلافات كبيرة. حصرت خياراتي بين هذين النموذجين من أجل تبسيط عملية الاختيار، وبدأت في المقارنة فيما بينهما.
كلمة سر غوارديولا
كلمة السر عند غوارديولا هي الوفرة. لدى النادي وفرة في اللاعبين المهرة، ووفرة في اللاعبين المهرة على دكة الاحتياطي، كما أن لديه وفرة في إحضار من يريد من خارج النادي إذا أراد ذلك. النادي المليء بالنجوم أصلاً كان في طريقة للتعاقد مع كريستيانو رونالدو لولا تغييرات في اللحظات الأخيرة. لكن هذه الوفرة لا تشمل اللاعبين فقط، بل تشمل الأموال والدعم الخارجي الذي يقدمه مالك النادي. وبلغة السياسة، فإن النادي يعمل في سياق داخلي يتميز بالفائض والوفرة بالإضافة إلى السياق الخارجي الذي يتميز بالدعم اللامحدود من مالك النادي للجهاز الفني واللاعبين. ومع هذا وبرغم هذه الظروف الداعمة داخلياً وخارجياً لم يستطِع النادي الحصول على لقب "دوري الأبطال". يلعب النادي بشكل جيد محلياً ويحصل على الدوري الإنجليزي، لكنه يبدو في النهاية مثل دول الخليج العربية، لا يزال هناك شيء ينقصها للحاق بالدور الممتاز. شيء لا تستطيع الحصول عليه رغم وفرة الأموال.
لنعد الآن إلى ليفربول.. الفريق العريق ذي الماضي الطويل والجمهور المتحمس دائماً. لكنه فريق غابت عنه البطولات المحلية والقارية لفترة طويلة. إذا كانت كلمة السر مع غوارديولا هي الوفرة، فإن كلمة السر في ليفربول مع يورغن كلوب هي الفاعلية.. الفاعلية على مستوى الأفراد، وعلى مستوى طريقة إدارة الموارد المالية. لا يملك النادي نفس القدرات المالية التي لدى الأندية الأخرى، هناك فرق واضح في القدرات المالية بين ليفربول ومانشستر سيتي لصالح الأخير. لا يستطيع ليفربول الحصول على نفس القدر من اللاعبين، ولا يقوم بشراء اللاعبين متى أراد المدرب ذلك. طريقة إدارة الموارد المالية تحتم عليه في أحيان كثيرة التفكير في بدائل متعددة، والبحث بشكل أطول على المواهب الصاعدة أو لاعبين مهرة في غير أندية القمة. بلغة السياسية، فإن السياق الخارجي للنادي من حيث الموارد المالية جيد، لكنه ليس جيداً بما فيه الكفاية بالمقارنة مع المنافسين. لكن حجم الدعم الجماهيري وغير المحدود من جماهير النادي في استاد الأنفيلد هي ميزة لا توجد في أندية كثيرة.
استراتيجية كلوب
إذا انتقلنا إلى السياق الداخلي، نجد أن استراتيجية كلوب مختلفة. في العام الأول لمجيء كلوب لتدريب النادي، لم يقم بتغيير الفريق بأكمله دفعة واحدة. على العكس، كلوب الذي يحب تدريب الأندية بعقود تمتد لسبع سنوات، بدأ باتباع استراتيجية إحلال وتجديد تدريجية. ومن خلال هذه العملية التي استمرت أكثر من عامين استطاع إعادة بناء فريق جديد مليء بالنجوم وقادر على تحقيق البطولات. لا تستطيع أن تضع يدك على تاريخ بعينه كموعد لتغير الفريق. لكنك لو قارنت تشكيلة الفريق مع اليوم الأول لمجيء كلوب، ثم تشكيلة الفريق بعد مرور عامين ستكتشف أن الفريق قد تغير بشكل تدريجي، ربما دون أن تشعر أنت كمشجع للفريق. لقد قام كلوب بإعادة بناء فريق قادر على تحقيق بطولة الدوري الإنجليزي ودوري الأبطال تدريجياً ودون الحاجة إلى صرف أموال طائلة بالمقارنة مع مانشستر سيتي.
لكن فاعلية كلوب الحقيقية تظهر في أفضل صورها في طريقة إدارته للموارد البشرية. يمكن له الاستفادة من قدرات اللاعبين بطرق مختلفة تتنوع من مباراة إلى أخرى طبقاً لسياق كل مباراة ومتطلباتها بحيث تكون النتيجة النهائية أن يستفيد الفريق دائماً من هذه التغيرات. يمكن أن يشرك كلوب لاعباً من ناشئي النادي في مباراة محددة لأن لديه شيئاً ما يمكن أن يضيفه لإدارة المباراة لا يوجد لدى أحد آخر غيره. وكثيراً ما قام بتغيير الأدوار التي يقوم بها لاعبو الفريق في نفس المباراة لأن لديه القدرة على الاستفادة من مواردها المتاحة في أفضل شكل ممكن.
هذه المقارنة تجعلني أفضل سياسي عربي بطريقة إدارة تشبه كلوب. وفرة الأموال ليست ميزة في حد ذاتها. والوفرة في الموارد البشرية ليست ميزة في ذاتها. طريقة إدارة هذه الموارد بفاعلية هي التحدي الحقيقي الذي يواجهنا في العالم العربي. حكومات العالم العربي يديرها مدربون غير قادرين على تقديم أداء جيد، ولا تحقق نتائج مُرضية، وتعمل بشكل تنقصه الفاعلية، ثم إنها تشتكي طوال الوقت من نقص الموارد المالية الكافية أو البشرية الماهرة. أمثال هؤلاء المدربين يكون مصيرهم في الدوريات الكروية الكبرى التغيير. لذا، فأرجو الله أن يرزقنا قريباً في العالم العربي مدربين أمثال يورغن كلوب نستعيد على أيديهم تحقيق البطولات المحلية والقارية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.